يبدو أن المتابع للمشهد الفكري السعودي يصبح في حيرة من حجم التغيرات التي تمور في خريطته الذهنية، فهناك تيارات متدفقة وتحولات لا تكاد تهدأ، مستجيبة للظروف المحيطة والضغوط العميقة. الإسلاميون في نظر عدد من المتخصصين يقعون في القلب من المشهد السعودي، لذا كان حجم التحولات في بنيتهم الفكرية والثقافية أكبر وأظهر، إلى درجة أن أطروحات بعض أطيافهم أصبحت لا تختلف عن خصومهم من التيارات الليبرالية واليسارية عموماً. "الحياة"تستطلع صور التحول من الخطاب المتشدد إلى المعتدل مع عدد من الخبراء والمهتمين، وتبحث في الدوافع التي عملت وراء تحول الإسلاميين نحو التغير وخطابات الانفتاح والتجدد، وهل ثمة شبهة انتهازية وراء ذلك، أم ضعف في ثقتهم بالمنطلقات وضغط للواقع؟ الكاتب عبدالعزيز السماري وصف لحظة ال11 من سبتمبر ب"المفصلية"في تاريخ الحركة الإسلامية السعودية، مثلت عامل انصهار للإطارات ضمن تيار الصحوة في التسعينات بعد ضعفه وفقدان خطابه للوازم الحشد الاجتماعي، مدفوعة بالعولمة وتمظهرات الحداثة التي وإن لم تقد إلى تغيير مباشر في الإطارات العامة، لكنها أعادت تشكيل تلك الإطارات وغيّرت من نوعية مستهلكي الخطاب، إذ أصبحت للدين والحق والآخر والعالم تصورات مختلفة متعددة بتعدد الروافد، وسيستمر هذا التطور بتجلياته حتى يومنا هذا وما بعده. لا يمكننا أيضاً إغفال عوامل أخرى أسهمت في تلك المراجعات، نلاحظ شواهدها في تقلص دور المؤسسات الدينية الرسمية وضعف مكانتها. بينما يؤكد أستاذ الدراسات العليا في جامعة القصيم الدكتور سليمان بن علي الضحيان أنه"لا يمكن فهم التحولات بعد سبتمبر إلا بالحديث عما قبله، إذ كانت مرحلة حرب الخليج الثانية وما صاحبها من قدوم القوات الأميركية مرحلة استقطاب حاد في مشهدنا الفكري المحلي، إذ تعامل معها الإسلاميون على أنها تهديد للهوية، وتعامل معها الليبراليون على أنها فرصة للبدء بانفتاح فكري، وهذا ما أحدث صداماً حاداً بين التيارين". وأشار إلى أن هذا الصدام"نتجت منه متغيرات عدة، وأهمها متغيران: أحدهما تشكيل رؤية متشددة ومتشنجة لدى قطاع عريض من أتباع التيار الإسلامي تجاه كل ما يخالف رؤيته، من أفكار أو أحداث أو مؤسسات أو أشخاص. الثاني، أن التيار الإسلامي نجح بامتياز في إشراك قطاع عريض من عامة فئات المجتمع معه في معركته، فتحولت أطروحات التيار الإسلامي- بما فيها تلك الرؤية المتشنجة مع الآخر - إلى ثوابت دينية لدى غالبية تلك الفئات". واستطرد شارحاً:"أي أن التيار الإسلامي مسح الطاولة وتفرد في تشكيل الوعي الديني والثقافي للجيل الشبابي آنذاك، ثم جاء الاعتقال الذي تعرض له أبرز موجهي التيار الإسلامي، وهذا ما قضى على أية بادرة كبيرة للنقد والمراجعة كان يمكن أن تحدث، وفي ظل هذا الواقع بدأت خدمة الإنترنت فكانت قناة حرة للتأثير والتوجيه". واعتبر أن الإنترنت أسهم في إنشاء حركتين، حركة نخبوية إصلاحية تدعو إلى النقد والتصحيح والمراجعة، وكان أثرها ضعيفاً في أوساط التيار الإسلامي. وحركة راديكالية يقودها طلبة علم تصدروا المشهد وساعدتهم على ذلك حدة الصراعات في الإنترنت بين الطرح السني والشيعي، والديني والليبرالي، ما أحدث صدمة عنيفة لدى جمهرة كبيرة من الشبان المتدينين ساعدت على اعتناقهم لأفكار راديكالية، تدعو إلى المفاصلة وقطف ثمار هذه الحركة، التنظيم الجهادي الجديد آنذاك وهو تنظيم القاعدة، ثم حدث تفجير"11 سبتمبر"، فما الذي أحدثه هذا التفجير في واقعنا الفكري المحلي؟ وأوضح أن أحداث التفجير - وكان معظم من قام بها سعوديون - صدمة لدى الرأي العام العالمي والمحلي. إذ كشف عن"واقع فكري"مغيّب، ومن هنا نشطت التحليلات، والنقد للطرح"السلفي"لدينا في وسائل الإعلام العالمية، وهذا ما أعطى الطرح الإسلامي المعتدل زخماً هائلاً وجعله يلقى جاذبية ورواجاً، وجعل كثيرين يتبنون أفكاره في ملف العلاقة مع الآخر، لكن الأمر - من وجهة نظري - على المستوى العام والرسمي لم يعدُ أن يكون كلاماً عن أهمية التعايش وقبول الآخر وأهمية الاعتدال والوسطية، من دون أن يتحول هذا الزخم إلى فعل مؤسسي، ما جعل جاذبيته تخبو مع الأيام. ولا أتفق مع السؤال بأن أحداث"11 سبتمبر"دفعت بعض المعتدلين إلى التشدد. كل الحكاية أن حدث"سبتمبر"نقل أفكار المفاصلة مع الآخر من التنظير الفكري إلى الممارسة العملية، معتبراً أن أحداث احتلال أفغانستان والعراق أعطت هذا النقل زخماً وجعلت له شعبية.