الدخول إلى المنازل الشعبية يشبه الدخول إلى «آلة الزمن» والعودة إلى الوراء. أزمنة وأماكن لا يزال في القلب لها متسع. تصاميمها الشرقية الفاتنة، وزخارفها المحشودة على النوافذ والحيطان. بيوت لا تعلو أسوارها كثيراً؛ ربما لإحساس سكانها بالأمان وثقتهم في جيرانهم، أبوابهم متقابلة تكاد تتلامس، وبناؤها لا يترك مسافة كبيرة بين البيت والآخر؛ فهم يحبون أن يبقوا متقاربين، حتى إن بعض المنازل تشترك في أسطحها فيستطيع أحدهم أن يعبر من بيت للآخر من خلال السطح. قلوب هذه البيوت مفتوحة على السماء؛ ففي وسط كل بيت لا بد من وجود مساحة كبيرة مكشوفة لا يغطيها سقف، وتتراصف على جنباتها الغرف. تستخدم المساحات المكشوفة لأغراض عدة، وتستغل لتناول الطعام، فساكنو هذه البيوت غالباً من الأسر الممتدة كثيرة العدد، أو تقام فيها الأعراس والولائم أو أي مناسبة تحتاج لمكان متسع. وكثيراً ما ينمو على حوافها الزرع، وقد تزود هذه المساحات الداخلية بنافورة مياه كما في بعض البلدان العربية، ليس لتعطي منظراً جمالياً فقط، بل هي تعد مبرد الهواء المنزلي وبعض الخضراوات والفاكهة في الأيام شديدة الحرارة في بلاد أخرى. حتى في البناء لا تخلو هذه البيوت من أصالة في مراعاة الأخلاق والمودة على رغم أنها مبنية من صخر جبلي أو طين، إلا أن للأحجار فيها نبضاً، وفي دهاليزها وأقبيتها حميمية ودفء، يمكن استشعارها عن بعد، على رغم أن غالبيتها بات اليوم مهجوراً، وامتلأ بعضها الآخر بالعمالة المخالفة أو تحولت إلى مكبات للنفايات ومأوى للحيوانات الضالة والمجرمين المحترفين والمنحرفين من دون حسيب ولارقيب. هجرها أصحابها ليلحقوا بركب ما يظنونه مدنية وتحضراً، وسكنوا القوالب الأسمنتية وهجروا البراح ووجه السماء ودفء شمس الشتاء ونسمة الصيف الندية، إلى مكعبات مغلقة ومتراصة فوق بعض شديدة الالتصاق حتى لا يستطيع الجار أن يرى جاره، فيما كانت البيوت القديمة قريبة من بعضها، القرب الذي يسمح لأهلها بتبادل المشاعر والتحدث والفرح وحتى أطباق الطعام والمساعدة في المهمات المنزلية إلا أنها متباعدة البعد القريب الذي يحفظ لأهل البيت سترهم وسرهم. ويتردد على لسان الغيورين على حالها أسئلة: «هل تراهم فرطوا في إنسانيتهم ونقاء نفوسهم التي كانت تربطهم عندما هجروها وتركوها للرياح تعبث في أركانها؟، أما آن الأوان لأصحاب هذه المنازل الثمينة والجهات المختصة أن ترمم ما تبقى منها وتزيل ما لم يعد قابلاً للترميم، منعاً للكثير من المخاطر البيئية والأمنية وحفاظاً على ما تبقى من روابط الماضي الجميل، والمستقبل المؤمل». وسرعان ما تحضر الإجابة، فمازال في الوقت متسع، ولا يزال بيننا من بنوا هذه البيوت ومن سكنوها ومن صنعوا أحجارها وأثاثها.