في منزل شعبي تسكن عائلة حسين المري، الذي يرفض مجرد النقاش حول فكرة الخروج من هذا المنزل الذي يربو عمره على قرن، على رغم أنه متداع وبالكاد تتحمل أعمدته الوقوف. أما الأسباب فلا تقتصر على الإيجار الزهيد الذي يدفعه إلى مالكه، بل لأن المري، الذي تجاوز العقد السابع من العمر، ساهم في تشييد هذا المنزل. كما ساهم في بناء عشرات المنازل المجاورة. ويقع المنزل في حي القلعة، أحد أقدم أحياء القطيف، وكان يستقطب كبار شخصيات المدينة ووجهاءها حتى ثلاثة عقود خلت، حين تقرر إزالة الحي، بعد ان بدأ بعض بيوته في التداعي والسقوط، وتعويض أصحابها بمبالغ كبيرة حينها، فانتقلوا إلى أحياء حديثة أسسوها هم وآخرون ممن ضاقت بهم بلدات وقرى وأحياء أخرى في محافظة القطيف، كانت محصورة بين بساتين النخيل، التي كان يصعب إزالتها وبناء منازل مكانها. فأسسوا أحياء جديدة في مناطق كانت بحراً، ولكنها دُفنت، مثل الناصرة، ومشاري، وتركية، والخامسة. يفتح المري باب منزله، ليطل على بيوت القلعة، التي لم يتبق منها سوى 18 منزلاً، موزعة في زوايا الحي الشمالية والغربية والشرقية، ثم يرمي ببصره إلى ساحة القلعة، ويشير إلى الخزان المنتصب في الطرف الجنوبي الشرقي من الحي، «بدأوا في إزالته، لكنني لن أخرج من هذا الحي». هنا تستعيد ذاكرة هذا السبعيني ذكرياته الشخصية في بناء منازل الحي وترميمها والعلاقة الحميمة التي تربطه بها. كما يستعيد تاريخ القلعة، مستعيناً بكتاب يقرأ منه «بُنيت القلعة على عهد الساسانيين في القرن الثالث الميلادي، وكان لها سور منيع، جُدد بناؤه في عهد السلطان سليم الثاني 1093 للهجرة». ولا يقتصر التمسك بالسكن في المنزل على المري، فزوجته تشاركه في ذلك، «نسكن في هذا المنزل منذ هجره أصحابه، ونتيجة لقدم المنازل؛ فإن الإيجار (700 ريال) مناسب جداً لنا، فمن بإمكانه الآن، ان يستأجر منزلاً بهذا السعر». وغير بعيد عن منزل المري، تسكن عائلة عبد رب الرسول مصطفى، الذي يقول: «يتوسط بيتي أحد أزقة القلعة، فيما تخلو المنازل المجاورة له من السكان، فلقد بدأت في التهالك، وأخشى أن يأتي يوم تنهار فيه تلك المنازل، ولا نستطيع الخروج من منزلنا»، مشيراً إلى ان بناء المنازل في السابق كان «أقوى»، مضيفاً أن منازل حي القلعة «مضت عليها سنوات عدة، لكنها ما زالت متماسكة، وإن كانت تحتاج إلى ترميم». ولا يتمنى المصطفى، أن «يُهدم ما بقي من القلعة، فهي تراث كبير، يجب الحفاظ عليه لأبنائنا، إلا انه لم يتبق منه شيء، والمنازل المأهولة قليلة. فيما قام البعض بتأجير منزله على عمال وافدين، لكنني لن أهجر منزلي، لذا أقوم بأعمال ترميم دائماً، ليظل محافظاً على قوته وتماسكه». وعلى رغم أن علي الخزام ترك منزله في القلعة، لكنه يشعر ب«حنين قوي» للحي الذي عاش فيه سنوات طفولته وشبابه، «كان الجميع يعيش في القلعة كأسرة واحدة، فالمنازل متراصة، لا يفصل بين منزل وآخر سوى جدار واحد ومن دون أسوار، فيما كانت النساء يتبادلن الأحاديث من فوق السطوح، وكذلك الأطفال، وكثيراً ما كانوا يدخلون إلى المنازل من السطوح، ليلعبوا سوياً». ويتحدث الخزام عن الحي الذي يسكن فيه حالياً، في أحد الأحياء الحديثة في القطيف، «الجار بالكاد يعرف جاره». وينتاب الخزام كآخرين خرجوا من الحي «الحزن عندما أمرُّ بمنزل الأسرة الصغير، الذي عشتُ فيه أنا وإخوتي وأبناؤنا، لكننا اضطررنا إلى هجره، بسبب ضيقه بنا جميعاً، ولولا ذلك لكنت موجوداً فيه إلى الآن». ويأسف لحال القلعة اليوم، بعد ان «تحولت إلى أطلال، لكنها تبقى آثاراً عزيزة على نفوس من سكنها، فلا يشعر بمدى قيمتها إلا من عاش فيها».