على رغم عصف الحداثة بكل سالف وتليد، وتسارع عجلة التطور العمراني التي طاولت المدن والمناطق السعودية كافة، إلا أن حارات عدة في عروس البحر الأحمر رفعت راية العصيان في وجه آلة التجديد من ملامسة جدرانها التاريخي العتيد، رافضة إلا البقاء على حالها الضاربة في القدم، والاحتفاظ بوضعها الذي توارثه أبناؤها كابراً عن كابر. وحينما تتهادى بك الخطى في حي البلد، يتساقط عن مخيلتك السير على أرض كان قطنها مثقفو ووجهاء مجتمع اليوم، وستتخلى زوايا المنطقة بالتأكيد عن صمتها لتنطق لك روحها حكايات المكان وأيامه السالفة. ويشبه الدخول إلى منازل تلك الحارات الدخول إلى «آلة الزمن» والعودة إلى الوراء بتصاميمها الشرقية الفاتنة، وزخارفها المحشودة على النوافذ والحيطان القصيرة، ربما لإحساس سكانها بالأمان وثقتهم في جيرانهم، أبواب قاطنيها متقابلة تكاد تتلامس، وبناؤها لا يترك مسافة كبيرة بين البيت والآخر، فهم يحبون أن يبقوا متقاربين، حتى إن بعض المنازل تشترك في أسطحها فيستطيع أحدهم أن يعبر من داره إلى جاره من خلال السطح. واقع الأحياء الشعبية، لم يرض فئة عريضة من الحداثيين من المهتمين بالشأن العمراني، ووفقاً للباحث الاجتماعي عبدالصمد بندقجي فإن التوسع العمراني الذي عاشته جدة نتيجةً لغياب التنظيم والتخطيط السليمين أفضى إلى انتشار فوضى «المنازل الشعبية»، لترسم صورةً باهتةً لا تليق بمدينة تعتبر وجهة رئيسة لآلاف السائحين على مدار العام. وعلى رغم الذكريات الجميلة لدى كثيرٍ من سكان «الشعبية»، إلا أن صعوبة «التملك» أدت إلى هجرانهم لها والهرب إلى وجهات أخرى من المحافظة أو تأجيرها على العمالة الوافدة، إذ أصبحت مشكلة الصكوك الشرعية لتلك المنازل عقبة في وجه هؤلاء السكان على رغم قضائهم الكثير من سنوات العمر فيها من دون منغصات حتى بدأ اليأس يدب إلى قلوبهم بسبب رفض المحاكم منحهم صكوكاً شرعية.