في العصور المظلمة للأمم الأوروبية كانت الكنيسة كنيسة الدين المحرَّف تعيش أوج قوتها وسلطتها، ولم يقع هذا التناسب العكسي مصادفةً، أو اتفاقاً من غير أن تكون له أسبابه المفسِّرة؛ ولكنها كانت صفقةً بين رجال الدين والبلاط الملكي أو السياسي، فجاء التخلف والجهل والقهر والظلم تبعاً لهذه الصفقة الخبيثة، كانت الكنسية تمنح صكوك الغفران، وتقايض رجل السياسة استبداداً باستبداد، وتمنحه الشرعية في مقابل الحصانة، فأفسدوا على الناس دينهم، وأرهبوهم، وتواطؤوا سكوتاً على كل فساد. ولم تتحرر أوروبا من ربقة ذاك الجهل والتخلف إلا بجملة أسباب كان من أهمها الثورة على الكنيسة وكسر حصانتها، وتعرية أخطائها وآثام رجالها المتواطئين مع رجال البلاط والسياسة. نحن ندرك يقيناً أن دين الإسلام يمنع هذه الصفقة الفاسدة، الحالقة للدين، بل الماسخة له، المحرفة لتعاليمه، المعطلة لمقاصده، فلا كهنوت في الإسلام أصلاً، ولا عصمة إلا للرسل، ولا واسطة بين العبد وربه، غير أن ثمة من يريد تحريف الإسلام ليكون كذلك، هناك من يريد كهنوتاً في ديننا، وقداسةً وحصانةً تُضفيان على زمرة من علماء الدين؛ لتكون لآرائهم وفتاويهم قداسة النص. ومن تحريف الدين والتلاعب بأحكامه أن تخضع الفتوى للإرادة السياسية، وهذا من أشد أنواع الهوى المتبع، لأن الفتوى المسيسة محمية أكثر من غيرها لا يكاد يجترئ عليها أحد. لا ينكر مسلم شرعية تغيّر الفتوى، وتغيّر الاجتهاد لاختلاف الظرف الزماني والمكاني، ورجوع المفتي عن فتواه ليس عيباً، بل واجبٌ يقتضيه التجرد لله والخلوص من الهوى ونزغات الشيطان متى تبيَّن للمفتي خطأ فتواه الأولى؛ غير أنه لا يدخل في هذا الباب تغيّر الفتوى خضوعاً لإرادةٍ ما، دون أن يكون هناك ما يقتضي تغيّر الفتوى من اختلاف الأحوال، وتغيّر مناط الفتوى، فالأحكام تدور مع عللها وجوداً وعدماً. أما تدويرها لهوى ومصلحة غير شرعية فشر يشوه الدين، وإذا أصبح هذا عادة متبعة فحينئذ لا ملام على عامة الناس أن يروا في سوق الفتوى تلاعباً وتحريكاً لبوصلتها عن جهتها الشرعية التي ينبغي أن تتجه إليها خضوعاً لله وتعظيماً لكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ولذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون موثوقاً في دينه، ولا يكفي أن يكون عالماً بالشرع. بل حتى مع تحقق تدينه وصلاحه فلا بد من استدراك خطئه وتسديد هفوته وتقويم عوجه، فلا محاباة في دين الله، واحترامُه وتقديرُه لا يمنع من نقده والرد عليه إذا أخطأ، فدين الله أولى بالحفاوة والاحترام والتوقير. والمبالغة في توقيرهم يفتح ذريعة اتخاذهم أرباباً من دون الله، يحرمون الحلال، ويحللون الحرام، أونسينا قوله تعالى: «اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو..الآية»، وفي حديث عدي بن حاتم قلت: يا رسول الله إنا لم نتخذهم أرباباً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟» فقلت: بلى. فقال: «تلك عبادتهم». وأخطر من تغيير الفتوى لهوى أو لمصلحة دنيوية تغيير المنهج بما لا يُعد إلا تناقضاً وتبديلاً وتنكّراً، ومما يعاب على العالم أن ينكر على غيره في سابق سيرته بعضاً من صور الإنكار العلني في قضايا عامة بحجة أن فيها تأليباً على ولي الأمر وتهييجاً، ثم يفجؤك بركوبه لهذه الجادة التي كان ينكرها بطريقة أكثر تأليباً وتهييجاً وبأسلوب تحاول نفيَ حظوظ النفس فيه لكن القرائن تأباه، فيجيز لنفسه الانتصار ولو بأسلوب التهييج والتأليب، ولا يجيز ذلك لغيره، ويغتفر في سبيل ذلك ما لا يغتفره في مصلحة أو قضية عامة تتصل بهموم عامة الناس. فله أن ينكر علانية لمصلحة نفسه، ولا يجوز لغيره أن ينكر إلا سراً! إن السكوت عن هذا الازدواجية في المنهج فيه نوع محاباة في دين الله بما لم يأذن به سبحانه، كما أن السكوت عن هذا التناقض في المنهج يفضي إلى أن يكثر مواقعوه من ضعاف النفوس وصغار طلبة العلم، ويصبح جادة لا يستوحش فيها سالكوها، ولا يعنينا شخص المخطئ وإنما يعنينا فعله وسلوكه الذي يجب أن يتوجّه إليه النقد كائناً من كان. والله المستعان. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]