عندما بليت ملابس الأديب الايرلندي جورج برنارد شو، وهو يبذل جهده في إثبات أدبه المرفوض من دور النشر، وفي إخفاء الثقوب التي هاجمت نعله وكل مساحة في سرواله، لم يزده ذلك إلا إلحاحاً لإثبات وجوده الأدبي والعقلي، وعلى رغم فقره المدقع ذاك، إلا أنه يعترف بأنه لم يذق ألم الجوع بفضل أمه التي كانت تستدين له، خصوصاً أثناء السنوات التسع الأولى التي قضاها في الكتابة، ولم يكسب فيها سوى خمسة جنيهات أجراً لكتابة مقال عن الطب، كلّفه به أحد المحامين لسبب غير مفهوم، ثم جنيهاً واحداً نظير قيامه بفرز الأصوات أيام الانتخابات، وفي ذلك يعلن أنه لم يستطع مد يد العون إلى أسرته حتى في أشد حالات العوز، فهو لم يلق بنفسه إلى كفاح الحياة، بل ألقى بأمه عوضاً عنه، وأم برناردشو في ذلك إنما تشبه أم الزعيم الروسي ستالين، والتي لم تفقد الأمل يوماً على رغم جهلها، وولادتها في ظل العبودية، وعملها في غسل الثياب في أن ترى ابنها يعيش أفضل من الدنيا التي شهدتها، فكانت تذهب إلى الكنيسة يومياً، لتوقد الشموع وتركع بدموعها، وتصلي توسلاً لتحقيق أمنيتها، غير عابئة بالمدة التي تلزمها لبلوغ رجاها، ففي نظرها هي تسعى إلى هدف مقدس! كلمة أخيرة كم هو جميل ومطمئن حب الأم المعطاء! فهو حب لا يشيخ ولا يعترف بالمستحيل. يغفر ويمنح الفرص. يؤمن بك لو تخلى كل العالم عنك، غير أن أي حب وإن كان حب الأم تجده غير مجرد من المصلحة أو حتى شبه المصلحة، فهذه ترى في ابنتها القصة التي لم تعشها، وهذه تنام ملء جفونها بحكي الناس عن بطولات ابنها. وكذلك نحن في حبنا لأمهاتنا وإحساسنا بالأمان في ظلهن، وكم من أمهات رحلن وفي أبنائهن غصة لندمهم وفوات فوت تأدية ديون الامتنان! فمن واجب الأبناء انتهاز فرصة الأيام التي لا تطول كما يحلو لنا الاعتقاد، كي يعبروا عن مشاعرهم تجاه أمهاتهم من دون خجل أو تأجيل، تماماً كما يتسارع حديث المودعين إلى المسافرين من نافذة القطار، منهيين إلى أعزائهم في اللحظات الدقيقة ما يريدون قوله قبل دق أجراس الرحيل وتحرك القطار، وكم حدثتني نفسي بعقاب الله فإذا تذكرت أنه خالق قلب الأم، هدأت واستبشرت خيراً، فمن أوجد قلب الأم واستودعه حنوها فكيف بقلبه هو ورحمته الأم علينا! إلا أنه وعلى قدر عظمة حجر الأم قد ينتهي المرء إلى أن يدين بعقده النفسية إلى الحجر ذاته الذي قاسى منه ومن خشونته معه، فيكون كمن ابتلي بفقد الأم من دون فقدها، وها هي أمامه تطالبه بحقوقها عليه، مساوية نفسها بأمهات العطاء والتضحية، فيؤدي ما عليه واجباً لا حباً واعترافاً، وقد قالها لنكولن:"أعظم كتاب قرأته أمي"، وهو بالفعل أعظم الكتب وأعمقها أثراً في نفسك، إن كان كنزاً أو مجرد لون يلمع ويظنه غيرك كنزاً. وقالوا:"الرجال من صنعتهم أمهاتهم"بلزاك [email protected]