مدير فرع «الخارجية» بمكة يستقبل قنصلَي بنغلاديش وكينيا    أجهزة النداء المتفجرة تهدد بحرب شاملة    البوعينين: الخطاب الملكي تضمن العديد من المعاني والتوجيهات على المستوى الداخلي والخارجي    الخريف يبحث فرص التعاون في الابتكار الصناعي وحلول التصنيع الذكية مع إيطاليا    أمير تبوك: الخطاب الملكي تأكيد للنهج الثابت للمملكة داخلياً وخارجياً    السعودية ترحب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراً بشأن «إنهاء الوجود غير القانوني في الأراضي الفلسطينية المحتلة»    الاتصالات اللبنانية تفضح صفقة الأجهزة المفخخة ل «حزب الله»    «سكري القصيم» يهزم خالدية البحرين بالثلاثة    بنزيما: كل مواجهاتنا القادمة بمثابة "النهائيات"    إتحاد القدم يرفع الحد الأقصى للاعبين الاحتياط في مباريات كأس خادم الحرمين الشريفين    الأخضر والأبيض يزين كرة يلو في جولة "نحلم ونحقق"    فرع هيئة حقوق الإنسان بالمنطقة الشرقية بضيافة تقني الشرقية    "دوائي" تحذر من أضرار الخلطات العشبية على الكلى    مؤتمر مستجدات السكري منصة علمية لتبادل المعرفة والابتكارات    مهرجان المسرح الخليجي يختتم فعالياته ويعلن عن الفائزين    كسر الخواطر    كلام للبيع    أمانة الشرقية والهيئة العامة للنقل توقعان مذكرة تفاهم    إندكس السعودية 2024 يفتتح أبوابه ويكشف عن علامات تجارية مرموقة ومسابقة نجوم المستقبل    نيابة عن القيادة.. وزير الداخلية ينقل التعازي لأمير الكويت    هيئتا الأمر بالمعروف في بلجرشي والمخواة تفعّلان برنامج "جهود المملكة العربية السعودية في محاربة التطرف والإرهاب"    25 سيارة إسعاف من السعودية لأوكرانيا    "التخصصي" ضمن قائمة أفضل المستشفيات الذكية في العالم لعام 2025    «الاستثمارات العامة»: تأسيس «QSAS» لتطوير تجارب تجسد التراث والثقافة والتاريخ    نائب أمير مكة يشهد انطلاق اجتماع وكلاء المساعدين للحقوق بإمارات المناطق    "موهبة" وهيئة تقويم التعليم والتدريب تعقدان ورشة عمل تكاملية    الحكومة الأردنية الجديدة: 32 وزيرا بينهم 5 سيدات    نيوم يتعادل مع العين ويبقى متصدرا بفارق الاهداف عن الحزم    الرياض تستضيف الاجتماع التشاوري العالمي لخبراء منظمة الصحة العالمية    قوات الاحتلال تعتقل أكثر من 30 فلسطينياً بالضفة الغربية    متحدث التجارة": 5 مزايا رئيسية لنظام السجل التجاري الجديد وإلغاء إصدار سجلات فرعية للمؤسسات والشركات    تراجع أسعار النفط قبل خفض محتمل لأسعار الفائدة    الصين تفتح 12 منشأة للأبحاث النووية أمام العلماء العالميين    الأرصاد: رياح مثيرة للأتربة والغبار تؤدي إلى تدني مدى الرؤية في تبوك والمدينة    القيادة تدين محاولة الاغتيال التي تعرض لها رئيس جمهورية القُمر المتحدة    السلمان لجرحى ومصابي عاصفة الحزم: أنتم أبطال الوطن    «التعليم»: معاملة ذوي شهداء الواجب كأصحاب الظروف الخاصة في النقل والتكليف    ترند غريب يستغفل المراهقين: تناول الطين والطباشير !    «صهاريج الصرف».. تشوّه قلب «الحوية»    مندش يسعى للتألق «آسيوياً»    الأمم المتحدة: السعودية تقفز 25 مرتبة في تطور الحكومة الإلكترونية    جديد نيكول.. تقلع الحجر وتفوت الجمل من الباب    الآسيوي :"كانسيلو" يفوز بجائزة أفضل لاعب في لقاء الهلال أمام الريان    خادم الحرمين يأمر بترقية 233 عضواً في النيابة العامة    شقراء ..تحتفي باليوم الوطني 94 بمجموعة فعاليات ومسيرة للخيول والسيارات الكلاسيكية    مساعد رئيس مجلس الشورى: الخطاب الملكي وثيقة هامة وخارطة طريق يستنير بها المجلس لأداء مهامه الوطنية    «عزب» لم يغب..!    مغالطة «زمن الطيبين»    مجلس الوزراء: الموافقة على أنظمة السجل التجاري والأسماء التجارية وضريبة التصرفات العقارية    « يوتيوبر» يدخل جحر دب سعياً وراء الشهرة    مصانع ابتكارية    استعرض استعدادات الاحتفال باليوم الوطني.. أمير نجران: المملكة أصبحت منارة للعالم    الحل الأمثل لاستيعاب القبول في الجامعات    حياته كلها مع الكتب    تكريم مستحق.. لعطاء مستمر    السفر يعزز الصحة ويؤخر الشيخوخة    مفهوم الاحترام        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن القابع خلف فكرة فلسفية
نشر في الحياة يوم 08 - 04 - 2008

منذ سنوات طويلة سمعت بالفيلسوف طاليس. أتذكر أن ذلك كان في المرحلة الثانوية، وإذا لم تخني الذاكرة فقد ورد ذكره في المقدمة التاريخية لمادة علم النفس. في تلك الحصة شرح لنا الأستاذ، أن طاليس قال: إن أصل الأشياء جميعاً هو الماء، وكل شيء يعود إلى الماء، وان الأرض قرص مسطح مستو يطفو على الماء، وأنه بهذا القول أصبح أباً للفلسفة.
بدت لي الفكرة آنذاك ساذجة ومضحكة، فقد درسنا في العلوم والجغرافيا ما يكفي عند حد أدنى لكي نفهم ما يحيط بنا من وجهة نظر العلم، فمن حسن حظ جيلنا أن المعرفة لم تتأدلج بعد، وأن المعلمين آنذاك محايدون. صحيح أنهم في الغالب كانوا ملقنين، لكنهم كانوا يعرضون المعرفة بحياد، ومن غير أن يتدخلوا أو يعلقوا إلا في حدود ما يوضح فكرة أو نظرية، وهو ما يبدو لي الآن موقفاً مميزاً.
حين ظننت أن طاليس انمحى من ذاكرتي عاد اسمه إلى الظهور مرة أخرى. هذه المرة، وأنا أدرس في إحدى القرى. كان يدرس معنا مدرس متعاقد غريب الأطوار: يحلق رأسه ولحيته وشاربه، وأحياناً يخفف حاجبيه إلى الحد الذي يلزم أن تقترب منه لكي ترى الشعر. كان رأسه يبدو ككتلة من العظم مشدودة بالجلد. وكانت أفكاره تزعج المدير، كأن يدرس الطلاب في الفناء، أو تحت شجرة ليست بعيدة عن المدرسة، أو وهم يسيرون. كان الطلاب يحبونه، وكنت أقف على مسافة منه، المسافة التي لا تدفع المدير إلى أن يضمني إليه، ولا تجعله يرفض إعارتي كتباً تبينت أهميتها في ما بعد.
في أحد الأيام، وفيما كنت أدرس، دخل إلى الصف وهو يمسك يد أحد الطلاب. شرح لي وللطلاب أن هذا الطالب عبقري، وأنه قلب فكرة طاليس رأساً على عقب. كان قد سأل الطلاب: ماذا تتوقعون العالم في القرن الواحد والعشرين؟ كنا في عام 1992، فأجاب الطالب: سيعيش العالم تحت الماء. أعجبته الإجابة، وكما شرح لي آنذاك، فإن إعجابه ليس لأن ذلك سيحدث، بل لأنه اعتبرها فكرة جمالية بديعة مثلما كانت فكرة طاليس، وأنها تنبئ بمستقبل باهر للطالب في الفنون. لم يكن يعرف أن الطالب سيترك المدرسة بنهاية ذلك العام، بعد أن سمع أن عقد المعلم قد ألغي.
قبل أن يسافر أهداني مجموعة من الكتب. كان من ضمنها كتاب يتحدث عن مجموعة من الفلاسفة الإغريق. كان الكتاب بلا عنوان أو مقدمة، ويبدأ مباشرة بالفيلسوف طاليس. حين سألته عن الصفحات الأولى ضحك، ثم أمسك بيدي. قطعنا مسافة قصيرة ثم توقف، ليشير لي إلى نعجة رابضة. قال: اسألها، فهي التي أكلت الغلاف والمقدمة. هز نفسه قبل أن يظهر صوته ضحكة.. أخ .خ .. خ.. لكنه أنهي ضحكه فجأة، كما لو أنه تذكر أنه يضحك، وهو يجب ألا يفعل ذلك.
شرعت أقرأ سيرة طاليس وفي ذهني سؤالان: أولهما: لماذا كان أباً للفلسفة، على رغم أن فكرتي الماء أصل الأشياء، والأرض كرة تطفو على الماء تبدو فكرتين ساذجتين إن لم تكن مضحكتين استناداً إلى ما توصل له العلم في ما بعد؟ والسؤال الثاني: أي جمال يختفي وراء هاتين الفكرتين؟ لم أصل إلى نتيجة، وبعد سنوات عرفت أن عنوان الكتاب الذي أهداني إياه هو"مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة"لديوجين لايرتيوس وأن هذا الكتاب هو أول ترجمة حديثة مصرية لمصدر فلسفي يوناني، أو على الأقل هذا ما كتب على النسخة التي صدرت عن المشروع القومي للترجمة في مصر.
بقي السؤالان يطاردانني، وفي كل مرة أقرأ مقالاً أو دراسة أو ترجمة عن طاليس أرى إجابتهما لكنني لا أعرفها، ومع تنامي الوقت أقررت بوجود إجابتهما في ما هو ومكتوب، وما عليّ أن أنتظر. كنت أسأل نفسي: لماذا يسعى الإنسان إلى تفسير أمور غير مفهومة بأمور مفهومة؟
جاء الفرج من كتاب"تاريخ الفلسفة اليونانية"ل وولتر سيتس . لقد مُنح طاليس لقب أبي الفلسفة"لأن فكرته أول محاولة مكتوبة منقولة تشرح الكون وتفسره استناداً إلى مبادئ طبيعية وعلمية، ولم يفسره استناداً إلى الحكايات والأساطير والأيديولوجيا. ثم إنه استحق هذا اللقب لأنه حدد اتجاه الفلسفة قبل الفيلسوف سقراط. حددها في اتجاه البحث عن المبدأ الأول الذي صدرت عنه الأشياء، وتبعه في ذلك فلاسفة كثيرون. والأهم من هذا كله أنه عرض مشكلة من غير أن يدعي أنه أعطى لها أي حل عقلي نهائي جازم.
بعد فترة قصيرة من قراءة هذا الكتاب، وجدت بالمصادفة كتاب"الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، وفي الفصل الثالث يتعرض نيتشة بالتفصيل لفكرة طاليس عن أصل الأشياء. فهي فكرة يلزم أن تؤخذ مأخذ الجد، أولاً: لأنها تتناول بطريقة ما أصل الأشياء، وثانياً: لأنه تناول أصل الأشياء بعيداً عن الأساطير الشائعة في عصره، وبالتالي لم تكن نظرته خرافية، ولم يستعن بالتفسيرات الأيديولوجية، وثالثاً: لأنها فكرة تتضمن ولو بشكل أولي فكرة"الكل هو الواحد".
إن الأهم من وجهة نظر نيتشة هو أن طاليس لم يقل إن الماء هو أصل الأرض، لأنه لو قال هذا لكان قوله مجرد فرضية علمية، فرضية خاطئة على رغم صعوبة دحضها، لكنه قال: إن الماء هو أصل الأشياء، وبهذا القول تخطى الإطار العلمي نحو مسلّمة نجدها في كل الأنساق الفلسفية بتعدد المحاولات المعبرة عنها. هذه المسلّمة هي الكل هو واحد وبذلك استحق أن يكون أباً للفلسفة.
أما كون فكرة طاليس تخبئ فكرة جمالية وإبداعية، فسأدع نيتشة يعبر عنها لأن تلخيص تحليله سيشوهه. يقول:"إن الفيلسوف يسعى لأن يردد في داخله كل أصوات الكون المتناغمة. ولأن يخرجها كمفاهيم. ففي حين أنه تأملي كالرسام، شغوف مثل رجل الدين، ومترصد للنهايات وللسببيات مثل رجل العلم، وفي حين يشعر بأنه يمتد على امتداد الكون، فإنه يحتفظ بحضور البديهة اللازم لكي يعتبر نفسه، وبدم بارد، انعكاساً للكون - إنه حضور بديهة يتمتع به رجل المسرح حين يتجسد في أجساد أخرى، ويتكلم بأصواتها، مع ذلك يعرف أن يظهر هذا التحول ويعبر عنه شعرياً. إن البيت الشعري هنا بالنسبة إلى الشاعر هو كالفكر الجدلي بالنسبة إلى الفيلسوف. فهو يتناوله لكي يثبت اندهاشه ويجمده. فكما أن الكلمات والأبيات الشعرية بالنسبة إلى الشاعر ليست سوى لعثمة بلغة أجنبية لكي يعبر بها عن الأشياء التي عاشها ولاحظها، كذلك فإن التعبير عن كل حدس فلسفي عميق بواسطة الجدلية والتفكير العلمي، إنما هو الوسيلة الوحيدة لإشراك الغير في ما عاناه الفيلسوف، ولكنها وسيلة فقيرة، إذ إن الأمر يقوم على التحويل بواسطة الاستعارة إلى دائرة ولغة مختلفتين، وهذا التحويل لا يمكن الركون إليه، وهكذا فإن طاليس رأى وحدة الوجود، وحين أراد التعبير عنها، تكلم عن الماء".
إنني وأنا أختم هذا المقال أفضل ألا أحكي تفاصيل الدهشة التي اعترتني وأنا أقرأ هذا التحليل، ولا أستطيع أن أصف البساطة والعمق اللذين أوصلا إلى هذا التجريد، إلى هذا الربط البديع بين فكرة تبدو مضحكة وفن يقبع خلفها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.