منذ سنوات طويلة سمعت بالفيلسوف طاليس. أتذكر أن ذلك كان في المرحلة الثانوية، وإذا لم تخني الذاكرة فقد ورد ذكره في المقدمة التاريخية لمادة علم النفس. في تلك الحصة شرح لنا الأستاذ، أن طاليس قال: إن أصل الأشياء جميعاً هو الماء، وكل شيء يعود إلى الماء، وان الأرض قرص مسطح مستو يطفو على الماء، وأنه بهذا القول أصبح أباً للفلسفة. بدت لي الفكرة آنذاك ساذجة ومضحكة، فقد درسنا في العلوم والجغرافيا ما يكفي عند حد أدنى لكي نفهم ما يحيط بنا من وجهة نظر العلم، فمن حسن حظ جيلنا أن المعرفة لم تتأدلج بعد، وأن المعلمين آنذاك محايدون. صحيح أنهم في الغالب كانوا ملقنين، لكنهم كانوا يعرضون المعرفة بحياد، ومن غير أن يتدخلوا أو يعلقوا إلا في حدود ما يوضح فكرة أو نظرية، وهو ما يبدو لي الآن موقفاً مميزاً. حين ظننت أن طاليس انمحى من ذاكرتي عاد اسمه إلى الظهور مرة أخرى. هذه المرة، وأنا أدرس في إحدى القرى. كان يدرس معنا مدرس متعاقد غريب الأطوار: يحلق رأسه ولحيته وشاربه، وأحياناً يخفف حاجبيه إلى الحد الذي يلزم أن تقترب منه لكي ترى الشعر. كان رأسه يبدو ككتلة من العظم مشدودة بالجلد. وكانت أفكاره تزعج المدير، كأن يدرس الطلاب في الفناء، أو تحت شجرة ليست بعيدة عن المدرسة، أو وهم يسيرون. كان الطلاب يحبونه، وكنت أقف على مسافة منه، المسافة التي لا تدفع المدير إلى أن يضمني إليه، ولا تجعله يرفض إعارتي كتباً تبينت أهميتها في ما بعد. في أحد الأيام، وفيما كنت أدرس، دخل إلى الصف وهو يمسك يد أحد الطلاب. شرح لي وللطلاب أن هذا الطالب عبقري، وأنه قلب فكرة طاليس رأساً على عقب. كان قد سأل الطلاب: ماذا تتوقعون العالم في القرن الواحد والعشرين؟ كنا في عام 1992، فأجاب الطالب: سيعيش العالم تحت الماء. أعجبته الإجابة، وكما شرح لي آنذاك، فإن إعجابه ليس لأن ذلك سيحدث، بل لأنه اعتبرها فكرة جمالية بديعة مثلما كانت فكرة طاليس، وأنها تنبئ بمستقبل باهر للطالب في الفنون. لم يكن يعرف أن الطالب سيترك المدرسة بنهاية ذلك العام، بعد أن سمع أن عقد المعلم قد ألغي. قبل أن يسافر أهداني مجموعة من الكتب. كان من ضمنها كتاب يتحدث عن مجموعة من الفلاسفة الإغريق. كان الكتاب بلا عنوان أو مقدمة، ويبدأ مباشرة بالفيلسوف طاليس. حين سألته عن الصفحات الأولى ضحك، ثم أمسك بيدي. قطعنا مسافة قصيرة ثم توقف، ليشير لي إلى نعجة رابضة. قال: اسألها، فهي التي أكلت الغلاف والمقدمة. هز نفسه قبل أن يظهر صوته ضحكة.. أخ .خ .. خ.. لكنه أنهي ضحكه فجأة، كما لو أنه تذكر أنه يضحك، وهو يجب ألا يفعل ذلك. شرعت أقرأ سيرة طاليس وفي ذهني سؤالان: أولهما: لماذا كان أباً للفلسفة، على رغم أن فكرتي الماء أصل الأشياء، والأرض كرة تطفو على الماء تبدو فكرتين ساذجتين إن لم تكن مضحكتين استناداً إلى ما توصل له العلم في ما بعد؟ والسؤال الثاني: أي جمال يختفي وراء هاتين الفكرتين؟ لم أصل إلى نتيجة، وبعد سنوات عرفت أن عنوان الكتاب الذي أهداني إياه هو"مختصر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة"لديوجين لايرتيوس وأن هذا الكتاب هو أول ترجمة حديثة مصرية لمصدر فلسفي يوناني، أو على الأقل هذا ما كتب على النسخة التي صدرت عن المشروع القومي للترجمة في مصر. بقي السؤالان يطاردانني، وفي كل مرة أقرأ مقالاً أو دراسة أو ترجمة عن طاليس أرى إجابتهما لكنني لا أعرفها، ومع تنامي الوقت أقررت بوجود إجابتهما في ما هو ومكتوب، وما عليّ أن أنتظر. كنت أسأل نفسي: لماذا يسعى الإنسان إلى تفسير أمور غير مفهومة بأمور مفهومة؟ جاء الفرج من كتاب"تاريخ الفلسفة اليونانية"ل وولتر سيتس . لقد مُنح طاليس لقب أبي الفلسفة"لأن فكرته أول محاولة مكتوبة منقولة تشرح الكون وتفسره استناداً إلى مبادئ طبيعية وعلمية، ولم يفسره استناداً إلى الحكايات والأساطير والأيديولوجيا. ثم إنه استحق هذا اللقب لأنه حدد اتجاه الفلسفة قبل الفيلسوف سقراط. حددها في اتجاه البحث عن المبدأ الأول الذي صدرت عنه الأشياء، وتبعه في ذلك فلاسفة كثيرون. والأهم من هذا كله أنه عرض مشكلة من غير أن يدعي أنه أعطى لها أي حل عقلي نهائي جازم. بعد فترة قصيرة من قراءة هذا الكتاب، وجدت بالمصادفة كتاب"الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي"، وفي الفصل الثالث يتعرض نيتشة بالتفصيل لفكرة طاليس عن أصل الأشياء. فهي فكرة يلزم أن تؤخذ مأخذ الجد، أولاً: لأنها تتناول بطريقة ما أصل الأشياء، وثانياً: لأنه تناول أصل الأشياء بعيداً عن الأساطير الشائعة في عصره، وبالتالي لم تكن نظرته خرافية، ولم يستعن بالتفسيرات الأيديولوجية، وثالثاً: لأنها فكرة تتضمن ولو بشكل أولي فكرة"الكل هو الواحد". إن الأهم من وجهة نظر نيتشة هو أن طاليس لم يقل إن الماء هو أصل الأرض، لأنه لو قال هذا لكان قوله مجرد فرضية علمية، فرضية خاطئة على رغم صعوبة دحضها، لكنه قال: إن الماء هو أصل الأشياء، وبهذا القول تخطى الإطار العلمي نحو مسلّمة نجدها في كل الأنساق الفلسفية بتعدد المحاولات المعبرة عنها. هذه المسلّمة هي الكل هو واحد وبذلك استحق أن يكون أباً للفلسفة. أما كون فكرة طاليس تخبئ فكرة جمالية وإبداعية، فسأدع نيتشة يعبر عنها لأن تلخيص تحليله سيشوهه. يقول:"إن الفيلسوف يسعى لأن يردد في داخله كل أصوات الكون المتناغمة. ولأن يخرجها كمفاهيم. ففي حين أنه تأملي كالرسام، شغوف مثل رجل الدين، ومترصد للنهايات وللسببيات مثل رجل العلم، وفي حين يشعر بأنه يمتد على امتداد الكون، فإنه يحتفظ بحضور البديهة اللازم لكي يعتبر نفسه، وبدم بارد، انعكاساً للكون - إنه حضور بديهة يتمتع به رجل المسرح حين يتجسد في أجساد أخرى، ويتكلم بأصواتها، مع ذلك يعرف أن يظهر هذا التحول ويعبر عنه شعرياً. إن البيت الشعري هنا بالنسبة إلى الشاعر هو كالفكر الجدلي بالنسبة إلى الفيلسوف. فهو يتناوله لكي يثبت اندهاشه ويجمده. فكما أن الكلمات والأبيات الشعرية بالنسبة إلى الشاعر ليست سوى لعثمة بلغة أجنبية لكي يعبر بها عن الأشياء التي عاشها ولاحظها، كذلك فإن التعبير عن كل حدس فلسفي عميق بواسطة الجدلية والتفكير العلمي، إنما هو الوسيلة الوحيدة لإشراك الغير في ما عاناه الفيلسوف، ولكنها وسيلة فقيرة، إذ إن الأمر يقوم على التحويل بواسطة الاستعارة إلى دائرة ولغة مختلفتين، وهذا التحويل لا يمكن الركون إليه، وهكذا فإن طاليس رأى وحدة الوجود، وحين أراد التعبير عنها، تكلم عن الماء". إنني وأنا أختم هذا المقال أفضل ألا أحكي تفاصيل الدهشة التي اعترتني وأنا أقرأ هذا التحليل، ولا أستطيع أن أصف البساطة والعمق اللذين أوصلا إلى هذا التجريد، إلى هذا الربط البديع بين فكرة تبدو مضحكة وفن يقبع خلفها.