منذ أكثر من أربعين عاماً يعيش المفكر اليوناني الأصل كوستاس اكسيلوس في باريس بعد ان وصل اليها في رحلة ومغامرة تشبه أفلام المغامرات البوليسية المعروفة. فقد كان في شبابه، منتصف القرن الماضي، وحيث اليونان ترزح تحت الحكم الديكتاتوري العسكري، سجيناً في جزيرة نائية في المتوسط ليس فيها إلاّ السجن وكان متهماً بانتمائه الى الحزب الشيوعي اليوناني الممنوع آنذاك. وفي ليلة قرر هو وعدد من رفاقه الهرب سباحة في محاولة اما الى ادراك شاطئ قريب أو سفينة خلاص أو الخلاص بالغرق من احتمال هذا السجن... وبالفعل - والمعلومات الواردة في النص منقولة شفوياً عن اكسيلوس نفسه وهو يُعدّ حالياً مذكراته التي تتضمن رواية كاملة لهذه المغامرة - نفّذوا هذه العملية وكانوا في عداد العشرة أفراد قضوا ليالي عوماً في البحر، وقضى معظمهم غرقاً ولم يصل الى شاطئ النجاة الا اثنان، كوستاس ورفيق له، فَقَدَ هذا الأخير الاتصال به. بعد ذلك واصل كوستاس رحلته غرباً عبر الحدود حتى وصل الى باريس ليقيم فيها أولاً لدراسة الفلسفة المعاصرة حيث أعدَّ الدكتوراه حول كارل ماركس، وبالتالي لينكبّ على دراسة الفلسفة اليونانية وخصوصاً الماقبل سقراطية حيث كتب عن هيراقليطس كتاباً متميزاً. درس بعد ذلك اللغة الالمانية للتعمق في الفلسفة المعاصرة وأتقن الألمانية دراسة وترجمة، ولمعرفته باليونانية القديمة امتلك اللغات الأساسية للبحث الفلسفي اليونانية القديمة والألمانية. وفي مطلع الستينات عندما بزغ نجم هايدجر وزار فرنسا التقى اكسيلوس وصار مترجمه الخاص. وكانت بين المفكرين علاقة صداقة متينة حيث تأثر أكسيلوس في بداية بحثه الفلسفي بهايدجر وصار له شاعِرَه كما كان لهايدجر شاعرَه هولدرين فقد اختار اكسيلوس رامبو وكتب عنه كتاباً فلسفياً على غرار البحث الذي نشره هايدجر عن هولدرين. ولكن سرعان ما تباينت الطروحات الفلسفية للمفكرين خصوصاً أن هايدجر كان يمثل مكانة مرموقة في الأوساط الفكرية والفلسفية المعاصرة من خلال بحوثه الشهيرة حول "الكينونة والوجود" والنظرية التي اقامها حول هذا الفصل بين "أنا كائن" و"أنا موجود". وعندما أثيرت في السنوات الأخيرة الانتقادات ضد هايدجر في فرنسا وأميركا في شكل خاص متهمة اياه بمعاداة السامية حاولت الإفادة من رأي الصديق كوستاس اكسيلوس ومعرفة اذا كان هايدجر لا سامياً حقاً... كان اكسيلوس يبتسم ويقول: "لم يكن هايدجر لا سامياً ولم تكن تهمة اللاسامية معروفة حينذاك بهذا الشكل، وأخيراً فإن المفكر أو الفيلسوف لا يحمل أجوبة ولا قرارات سياسية لكي توصف بأنها لا سامية أو أية صيغة أخرى، انه يحمل أفكاراً ومعادلات في المنطق إما ان تكون صحيحة أو خاطئة!!!". وعلى أي حال في العودة الى حياة أكسيلوس في أواخر الخمسينات في باريس لا بد من اشارة طريفة الى علاقته مع بيكاسو حيث كانت زوجة هذا الأخير على علاقة حب مع كوستاس اكسيلوس وكان صديقاً لبيكاسو. وقد انتهت هذه الاشكالية بأن طلّق بيكاسو زوجته ليتزوجها كوستاس من بعده... وفي هذه الحكاية مفارقة رواها لي اكسيلوس وهي انه عندما تزوج من مطلقة بيكاسو كان لديها طفلة صغيرة من بيكاسو وكانت هذه الطفلة لا تنام الا بعد ان تقرأ حكاية مرسومة يحضّرها لها أبوها، وعندما انتقلت امها الى بيت الزوجية الثاني كان رب البيت فيلسوفاً وليس رساماً اضطرت والدتها الى الاتفاق مع بيكاسو على إرسال الرسوم المحكية يومياً الى ابنته لتساعدها على النوم. وبالفعل تواصلت هذه العملية فترة طويلة، وكما يروي اكسيلوس انهما هو وزوجته كانا في كل ليلة يلقيان في المزبلة بهذه التخطيطات!!!. وهكذا اضاع كوستاس ثروة كبيرة لم يكن يعرف قيمتها في أيامها، ثم انه طلّق زوجته هي الأخرى في ما بعد ولم يبق له من بيكاسو الا هذه الذكرى وهو يسمي ذلك ب"حكاية الكنز المفقود". يعيش كوستاس اكسيلوس حالياً في باريس وحيداً وقدْ قاربَ العقد السابع من العمر، يترأس سلسلة فلسفية في دار نشر مينوي اسمها "حُجج arguments" ويواصل مشروعاً فلسفياً متميزاً بدأه في ثمانينات القرن الماضي عندما كتب "لعبة العالم" حيث توصل الى ما اسماه ب"الوجود اللعبة" و"الكائن اللاعب". يعتبر اكسيلوس ان الوجود كله لعبة متكاملة الأطراف وان كل عملية خلق فنّي أو وجودي هو لعب من طراز رفيع... انها لعبة العالم وهي مبرر وغاية تواصله واستمراريته أي ان لا هدف قبل - بعد "اللعبة"... والإنسان يعبر في لعبة الكون طرفاً أساسياً لاعباً ولعبة في آن. ثم ان اكسيلوس درس الفلسفة والشعر بعمق وانتهى بموت كليهما... فهو يرى ان الفلسفة ماتت بعد هوسرل الالماني وان الشعر انتهى بعد رامبو الفرنسي. ولكن عندما نسأله عمَّا يُكتب اليوم في الفلسفة على سبيل المثال، يقول إنها انتقلت ابتداءً من نيتشه الى الفكر وصار الفلاسفة مفكرين. وبهذا فهو يعتبر نيتشه مفكراً لا فيلسوفاً لأنه يربط تعريف الفيلسوف بالمفهوم اليوناني القديم أي بتفسير الكون وليس بالبحث في شؤون الإنسان والحياة. لهذا، فهو يرى انه حتى بعد نيتشه تدهورت الفلسفة لتصبح أقرب الى البحوث "الصحافية" على حد تعبيره. وهو يرى ان هيغل هو الذي اكتشف "الايجابية" الأميركية في الحياة. هذا المفهوم الذي يفسر لديه انتصار اميركا على العالم وعلى أوروبا "السلبية" التي تعيش اليوم تحت اوزار الديكارتية في الشك والتردد. أما عن الشعر فإنه يجد أن حياة الشعر اليوم هي حياة النهاية التي قد تعمّر طويلاً... "الموت في الإبداع أطول من الحياة فيه" هكذا يقول... وعلى أي حال يشكل كوستاس اكسيلوس حالة فكرية - شعرية سياسية نادرة. فقد ظل علامة فارقة في الفكر الأوروبي محتفظاً من ناحية بأصالته اليونانية كفيلسوف في نهاية الفلسفة وفي الوقت نفسه يحاول ان يجد موقعاً لتفسير العالم "اللعبة" اليوم خصوصاً وقد هيمنت قوى "المسوخ" - كما يسميها في كتابه عن التكنولوجيا - على كينونة الفرد المعاصر. ان كتابه "المسوخ" يشكل هجمة شرسة وعميقة ضد فكر وحياة وانسان التكنولوجيا التي نعيشها... هذا الكتاب، حاولت ترجمته الى العربية ولكنني وجدت صعوبة بالغة في ايجاد البدائل الفلسفية للمصطلحات الغزيرة التي استحدثها اكسيلوس بالفرنسية لكتابه هذا. على أي حال، الحديث عن كوستاس يطول، لأن مغامرته الفكرية والحياتية تتواصل. "يا لمتعة الطفل وهو يحطم دميته" "ليس للإنسان طبيعة، لا جوهر، لا كينونة، لا مصير، انما تنتشر فيه وعبره لعبة. وعلى اي حال فنحن لا نتطابق مع أنفسنا". * * * "يا لمتعة الطفل وهو يحطّم دميته. سيتوجب على الإنسان من بعد ان يتعلم انه، نفسه، دمية، يجب ان تتحطم". * * * "عندما لا نعطي خيباتنا شكلاً كونياً فإن هذه الخيبات تأخذ طريقها للحل". * * * "ليس لكوننا قلقين نصبح مقلقين". * * * "من منا نجح في الإفلات من الوطن الحق الذي لا مكان له لا في الأرض ولا في السماوات؟". * * * "كيف يمكن الخروج من لعبة الانجذاب المزدوج بين سطوع الشمس المتوسطية والوضوح - المعتم الشمالي؟". * * * "أحياناً "أرى" رجلاً مريخياً يتجول بين الارضيين". * * * "العقبات تلعب دوراً ايجابياً في شكل قوي". * * * "لنعش منذورين للفناء، لا تحت أفق الأبدية واللانهاية انما مهتدين بنجيمات النهايات والوقتية اللازمة". * * * "الاتحاد والتمزق لن يقوما بدون بعضهما وهذه مفارقة. فلا أحد بينهما يسبق الآخر ولا أحد يظهر دون الآخر". * * * "إذا كان احترام بعض القوانين أمراً لا يمكن الافلات منه فإن ضرورة استجوابها وتجاوزها اقوى". * * * "عندما نتحدث عن أنفسنا، عن الآخرين، عن الأشياء، عن العالم فإننا غالباً ما نقع في فخاخ التسميات. ومع ذلك فإن كل الأشياء - التي هي جزئيات الكون - والكون نفسه يقاوموننا بقوة". * * * "ان الوشائج التي تربط الكلمات بالأشياء المتلازمة لبعضها البعض، على رغم كونها مختلفة كلياً، تبقى اشكالية واستفهامية وتتحايل علينا من دون توقف وعندما تسعى اللغة الى ادراك استقلالها الذاتي فإن الحاجة لوضعها في مواجهة ما يقاومها تتولد فينا للتو". "إن ما يستعصي علينا قوله للآخرين يخنقنا في مكان ما". * * * "كيف يأمل كل ما هو كائن أو مخبأ بالوصول الى اللغة ومنها الى العمل؟". كل كلام وكل نص يبقى مرتبطاً بالتأويل واللاتأويل، ومنفتحاً لكل الإشارات. الكلام والكتابات الشعارية لها المستقبل". * * * "نشوة الابتكار والابداع وزهد التأمل يمشيان يداً بيد في طرق الأفكار". * * * "ان تفعل شيئاً لا يعني انك تعرف ما تفعل ومع ذلك فإن المعرفة تضيء الفعل الذي يضيئها...". * * * "بلغة نجومية، يمكن القول، بكواكب خاسرة". * * * "المثالي يتمتع بحياة صلبة. فهو يحيا حتى مع الهدامين. المثالي الخائب يولد اشكالاً من التشاؤمية. لكن الواقعي يظل أعشى، تدوسه التجربة". * * * "لا ينبغي ان يفهم التاريخ باعتباره تقدماً أو تدهوراً: ربما سيكون من الضروري تأمله واختباره على أنه تطواف تاريخي كوني، لا بتعبير التاريخ العالمي. على رغم ان كل شيء يقع في اطار ما قبل التأريخي - التاريخي - المابعد تاريخي - الا ان هناك كلاماً وتفكيراً وانشطة تختزل كل مراحل التأريخ". * * * "يسجل التأريخ في الزمن وبأمكنة مختلفة. انه تأريخ - تحولات علاقتنا بالكون. ان بنية التأريخ تتكون مما ستؤول اليه الطبيعة، من الأمكنة، من الأفراد، من الشعوب ومن الأعمال، وهذه لا تفلت مما سنسميه ثقافة. ولهذا فهي ثانوية". * * * "للأفراد كما لعصور التأريخ فضلاتهم. اننا نجتاز عصراً غنياً في شكل استثنائي بالفضلات". * * * "التضحية بالحياة لم تكن قط يوماً ارادية". هذه المقتطفات هي من كتاب "نصوص من سيرة شخصية" الصادر عام 1997 عن دار Minuit التي يعمل فيها اكسيلوس رئيساً للسلسلة الفلسفية "حجج" Arguments. ترجمة: ش. ع. ا.