الانطباع الأول الذي يتشكَّل عند قراءة مجموعة"رياح وأجراس"للقاص فهد الخليوي هو أننا نقف في مواجهة نصوص مفتوحة، فهي تمنح متلقيها مساحة من الحرية كي يتمكن من قراءة شبكة علاقاتها النَّصية التي تحيل إلى الانفتاح وقابلية التأويل. ولعل أبرز هذه العلاقات التي تشكل علامات ظاهرة تتآزر في سبيل تكريس قابلية المجموعة للتأويل أن عنوان المجموعة جاء خالياً من أل التعريف أو أي إضافة تحد من إطلاق الدلالة، كما أن المجموعة المشتملة على 16 قصة قصيرة جاءت عناوينها نكرات:"رياح، إبادة، أجراس، عن قرية هجرتها شاحنات القمح، البوابة، سطور من تراث الوأد، بقايا ذاكرة، عرس، بحر وأنثى، مكابدة، ظلام، ذكرى، لص، حصان وفرس، صحراء، جحود"، فهي، باستثناء قصة البوابة، جاءت خالية من التعريف الذي يجعلها أقل اتساعاً في بلوغ المطلق الذي يعبّر عنه القاص. فحتى قصة"البوابة"التي كان يجب أن تحيل إلى بوابة محددة تحمل دلالة ضمنية لبوابة تفضي إلى الخارج أو العكس جاءت مجرد شكل جمالي في مدينة يسرد القاص حكايتها مع الطرق الدائرية التي تلتف حول المدينة وكأنها تحاصرها، إنها مجرد شكل جمالي لا يحقق حلم سكان هذه المدينة المحاصرة بطرقاتها الدائرية: "يذهب الناس أحياناً إلى الطريق الجديد، يعبرون من فوقه ثم يدور بهم دورته المعتادة وعندما يجتاحهم الغثيان ينسلون عبر مساربه المتعرجة عائدين إلى بيوتهم"، وبين مخاوف سكان هذه المدينة من إنشاء طريق مستقيم قد يسلمهم إلى التيه:"خارج المدينة ليس إلا تيه قاتل وصحارى قاحلة"، وبين حلمهم بطريق يفضي إلى الخارج عبر بوابة واضحة المعالم ينكسر حلمهم الجماعي عندما يكتشفون حقيقة البوابة التي نبتت فجأة عند أحد منحنيات الطريق الجديد:"أمضى الناس هناك بعض الوقت، ثم عادوا إلى بيوتهم، فالذي رأوه في ذلك اليوم كان معلماً جمالياً من معالم المدينة"، هذه هي البوابة التي لا تشارك بقية البوابات في شيء حتى وإن وردت بصيغة معرفة لا تحيل إلا إلى أوهام سكان مدينة محاصرة بالتيه والصحراء. ليس اعتماد الخليوي على تقنية كتابية تعتمد سرد مفتوح من خلال الابتعاد عن أي تعبير عن حالات محددة ومعرّفة، أو حتى ضيقة الدلالة بفعل الإيغال في الوصف الذي قد يحد من إطلاقها دلالياً على حالات إنسانية عامة هي هاجسه الأول في الكتابة منذ أكثر من ربع قرن، بل إن قصص الخليوي تخلو تقريباً من أسماء الشخصيات!، كما تخلو من أسماء المدن، أو أن تقبل أن يكتنفها رمز خاص بمكان أو زمان لا يجعلها قابلة للتمدد في فضاءات مكانية شاسعة، أو أن تعبر الزمن من الماضي إلى الحاضر وصولاً إلى مستقبل يهجس بخلاص الإنسان وحريته. إن قصة"رياح"التي يفتتح بها الخليوي مجموعته لا ترصد أثر الرياح التي هددت مدينة لا محدد لها ولا صفة إلا أنها مجتمع إنساني يكاد ينغلق على مخاوفه وقلقه من قادم لا يعرف ما يخبئه له في طياته، حتى أن هذه الرياح تبقى مجهولة الأثر للقارئ ذاته:"كان القلق يرتسم على الملامح خوفاً من انهيار البيوت، والصروح والأعمدة سيما أن المدينة بنيت على النسق القديم ذي الطبيعة العشوائية وربما تصبح في مرمى الخطر المحدق أمام هول الرياح وضراوتها". نعم،"ربما"هي كل ما نصل إليه في نهاية القصة، فهناك قادم يهدد المدينة، وهذه السمة التي تحمل الخوف الإنساني من كل قادم لا يدري كنهه ليست سمة مطلقة، لكنها الأكثر شيوعاً، إذ نجد في القصة إشارة أخرى لاحتمال آخر:"ازدحمت بالسماء سحب كثيفة، وكأنها تنذر بحدوث شيء ما، لكن بعضهم رجّح بأنها مجرد أمطار غزيرة ستدفع بها الرياح إلى أماكن أخرى". هذه هي"رياح"التغيير التي يخافها الناس، وينكمشون أمامها متحصنين بتأويلاتهم التي تركن إلى الخوف أكثر من ركونها إلى حب المغامرة والاكتشاف، وهي ذات الرياح التي نلمحها في قصة"أجراس"إذ نجد بطل القصة يحمل:"كراتينه المدهشة وكيس متاعه الصغير"ويرحل عن الحي، حدث قبل ثلاثين عاماً أن جمع كتبه في كراتين تحمل في داخلها كتبه / الأجراس:"خمسون حولاً دقت أجراسها في غضون الزمن، بين صخب جرس وآخر تقبع ارتعاشة مرهفة داخل مسرحية طويلة، يشدها قضيبان، هزلي وتراجيدي"، هكذا تبدأ القصة، وفيها حكاية هذا الخمسيني الذي يعجز عن دفع الإيجار فيجد نفسه مهدداً بالطرد، وفي غضون يومين يجمع كتبه في عشرات الكراتين بينما يكفي كيس صغير لحمل بقية متاعه، هذه الكتب التي تدق أجراسها مجلجلة:"على كل سائر أن يكون جسراً للمتقدمين وقدوة للمتأخرين، نيتشة، فيلسوف عظيم لا يتكرر"، إنها الثقافة التي تمر عبر نيتشة وسارتر ولاشبنغلر، وغيرهم من فلاسفة التنوير، يحملها بطل القصة ويرحل، وبعد ثلاثين عاماً يعودُ إلى حيه القديم ويجوب الشوارع كي يشعل ذاكرته:"إيقاعاتٌ حزينة وشجية، تناغمت في فضاء روحه، شعر أن ذاكرته تشتعل وتصهر المكان والزمان، وكأنها تحيل حقبة توارت إلى دقائق معدودات"، ولأن مدن فهد الخليوي عصية على أجراس التنوير، ورافضة لرياح التغيير فإن بطله لا يجد سوى البحر الذي يعد بقادم ما من خلال دمدمته:"قاد سيارته متجهاً إلى الشارع العام، ثم سلك الطريق المؤدية إلى البحر، هناك وقف على الشاطئ منصتاً لدمدمة البحر". أما في قصة"سطور من تراث الوأد"، فإننا سنجد دائرة أشد قتامة، فالوأد"تليد"وكفن الموءودة منسوج من"عروق ليل طويل"وموتها ليس أكثر من مهرجان جماعي:"امتصتها العتمة، دلفت إلى مهرجان موتها، وتقاطرت أنوثتها شموساً وأناشيد"، لتكتمل الدائرة حين نجد القائمين على مهرجان الوأد يرثون ما يفعلون:"كانوا يلوحون برايات سوداء، ويحملون فوق كواهلهم ليلاً حالكاً وسلاسل غليظة وبقايا وأد قديم"، فلا نجد لدى الخليوي أي إشارة إلى أن الوأد عمل يقع على المرأة بوصفها جنساً عاماً يحيل إلى جميع النساء وليس إلى امرأة بعينها، لكن الوأد فعل يقع على من يمارسه بالضرورة، فهو إرث يتناسل ويجتاح الفاعل والمفعول به، ويؤكد ذلك عنوان القصة الذي يجعل من الوأد تراثاً، ومن العذاب طيفاً مشعّاً:"شعت من روحها ومضات عذاب تليد". كما أن المرأة ليست موءودة فحسب، ففي قصة"بحر وأنثى"نجد رمزاً مختلفاً للمرأة التي:"تركت أسمالها الرثة قرب الشاطئ المقفر، توغلت عميقاً نحو البحر وهوت كنجمة مضيئة"، وكأنها تحمل دال رفض الأنثى لوصاية ثقافة مقفرة، وتوغلُ عميقاً في البحر، هذا البحر الذي يحمل كل دلالات التوقع للقادم أياً كان. إن مجموعة فهد الخليوي"رياح وأجراس"لا تتوسل الأسماء أو الإشارة إلى الأمكنة بمسمياتها، بل تجعل منها دوالاً مفتوحة من خلال النفور من التعريفات الضيقة لحالات محددة لا تخدم ما يريده كاتبها، فهو الباحث عن التغيير، المنحاز لتحرير الإنسان من أغلال ينسجها بيديه، فجاءت المجموعة خالية من الخطابة المباشرة، متوسلة بالفن الذي يستطيع قول كل شيء، فالمجموعة التي يورد الخليوي في نهايتها قصة"صحراء"تدل على وعيه بماهية ومعنى الفن، إذ إن الصياد الذي يريد تصفية خصمه"الذئب"من خلال الرصاص لن يجني شيئاً في النهاية سوى أن يخسر ما جاء من أجله:"بفعل دوي الرصاص، هربت الغزالة مذعورة إلى مجاهل الصحراء ولم يعد يرى لها أثراً". إن فهد الخليوي كان، ولا يزال، يحمل هاجس الحرية والرغبة في التغيير، كما يحمل هاجس إدانته للعسف والجور، فقصته"عن قرية هجرتها شاحنات القمح"التي كتبها عام 1976 تدل قارئ مجموعة الخليوي على أنه صاحب مشروع إنساني يرفض العسف ويحلم بغد حرّ لا يمكن أن يتحقق إلا على أيدي من يفتحون الأبواب لرياح التغيير بمعزل عن تأويلاتهم المنحازة للإيمان المطلق بمخاوفهم.