جاء عنوان مجموعة فهد الخليوي القصصية، مكونا من كلمتين: (رياح) و (أجراس)، وهاتان الكلمتان عنوانان لقصتين ضمن المجموعة. يجد المتلقي عند الولوج في آفاق هذه المجموعة، أن الخليوي، قال من خلال نصوصه كل ما أراد الإفصاح عنه، دون أن يقع في فخ المباشرة الفجة أو الخطابية المؤدلجة، مستخدما في بلوغ غايته لغة الفن التي أجادها بتميز بلغ حدود الدهشة. يقول بطل قصة (رياح): «بعض المهتمين عاد به البحث إلى أزمنة سحيقة وروى أن للرياح أساطيرها وطقوسها وهي تضرب في أعماق البحار، وتجتاح الصحارى، وتدك أقوى الحصون، وتهزم أعتى الأباطرة، وتحيل الساكن إلى متحرك والثابت إلى رماد». ص 16. قلب الحدث يعقد الكاتب في هذا النص العميق صداقة حميمة مع القارئ بأسلوب يدفع الأخير لمتابعة أحداث القصة حتى النهاية، حيث يضع القارئ مباشرة في قلب الحدث موحيا له برمزية مكثفة تحيل إلى حزمة من التأويلات والتوقعات، ولعل التأويل أو التأويلات التي تتبادر في ذهن المتلقي تعني له أول ما تعني، الإشارة لرياح الألفية الثانية بما فيها من ثورة معلوماتية اتصالية جعلت من العالم قرية كونية صغيرة، إلا أن هناك من نصب نفسه وصيا على العالم بوقوفه المعاكس ضد رياح التقدم والتغيير. أما بطل قصة (أجراس) فهو ينتمي لأقلية مثقفة ومهمشة داخل مجتمع تحرض معظم أدبياته على العزلة والانغلاق، حيث لا يأبه بطموحات مثقفيه ولا يتفاعل مع أحلامهم الكبيرة، وقد بلغت صدمة بطل القصة من واقعه حد الألم عندما عجز عن تسديد إيجار منزله في الوقت المحدد، مما دفع مالك المنزل إلى تهديده بالطرد إذا تقاعس عن التسديد خلال يومين. « آنذاك جلب عشرات الكراتين، من مرمى مستودعات الأغذية لشحن كتبه، أما باقي الأمتعة فأمكن شحنها في كيس صغير». ص22. المنولوج الدخلي الحنين للمكان وتدفق الذكريات والهمهمات (المنولوج الدخلي)، هو الذي تبدأ منه القصة وتنتهي، ولا يجد بطل القصة خلاصا لمعنى وجوده عدا الفرار إلى شاطئ المدينة. «قاد سيارته متجها إلى الشارع العام، ثم سلك الطريق المؤدية إلى البحر، هناك وقف على الشاطئ منصتا لدمدمة البحر». ص23. يخرج بطل القصة من حيه القديم مبللا بمطر ذكرياته، مستحضرا زمن أحلامه وطموحاته الكبيرة، وهو يرى ذلك الزمن كذرات الغبار العالقة على نوافذ البيوت القديمة أو في غلاف مهترئ لأول كتاب قرأه. «إيقاعات حزينة وشجية، تناغمت في فضاء روحه شعر أن ذاكرته تشتعل وتصهر المكان والزمان، وكأنها تحيل حقبة توارت إلى دقائق معدودات». ص23. هكذا أزت الرياح واصطخبت الأجراس في هذه المجموعة المميزة التي حلقت نحو فضاءات رحبة، حيث انصهرت نصوصها ومصائر أبطالها في خلية متقدة بالحياة والتساؤلات والحنين لأمل مقبل. زحف الزمن في نص (إبادة) انهزم البطل أمام زحف الزمن وجبروت الفناء، وهو يستعرض عبر ذاكرته شريط ضحاياه «قرأ أوراقا نسخت بمداد زمنه الآفل تذكر ضحاياه وكأنهم طيور متوحشة تهبط فوق روحه المتلاشية». ص19. ويمضي نص (إبادة) في تفاصيل غرائبية عن حشرة تنجب سلالات تفرز سوائل مدمرة تبيد كل ما حولها من بشر وحجر. «-إنه الفناء! قال ذلك واستسلم لعواء طويل». ص20. وفي قصة (عن قرية هجرتها شاحنات القمح) تهيمن شخصية سيد الأرض على أجواء السرد ودرامية الحدث، ويصبح مصير القرية في قبضة السيد! «- نظرا للظروف المناخية والجيولوجية، تقرر عدم مرور الطريق الإسفلتي الجديد عبر القرية». ص25. بعد هذا القرار المؤلم يتحول أهل القرية إلى متسولين عند عتبات سيد الأرض ساعين قدر استطاعتهم لاسترضائه واستعطافه لعدوله عن قراره الجائر الذي «سيدمر اقتصاد القرية ويحيلها إلى مجرد أكواخ متناثرة وسط صحراء قاحلة». ص25. قرر أعيان القرية تزويج سيد الأرض (لعلمهم بنهمه) على مضاوي وهي أجمل بنات القرية وأكثرهن ذكاء وأنوثة، بهدف إغرائه وجره للعدول عن قراره. «خرموا جسدها الغض بالخماخم الذهبية، والحجول الفضية، ومشطوا ضفائرها بالمسك والعنبر، وخضبوا كفوفها بالحناء». ص26. ذروة الحدث الدرامي في هذه القصة تجسد في خاتمتها، عندما ساد شعور الإحباط في نفوس أهل القرية، فسيد الأرض بعدما «التهم روائع أنوثة مضاوي، أصيب بسعار مخيف قرر بعده التهام كل بنات القرية». ص27. تضاريس القص استطاع الخليوي في النصوص القصيرة جدا التي كتبها في هذه المجموعة بحرفية ومهارة فنية، معرفة وكنه تضاريس القص القصير جدا، الذي ساد في الساحة الأدبية العربية كإبداع سردي جديد مطلع التسعينيات. تتحرر المرأة في نص (بحر وأنثى)، وتتخلص من (أسمالها الرثة) عند خروجها إلى البحر هروبا من واقعها القاتم «اقتربت المرأة نحو الشاطئ، حدقت عبر الفضاء الرحيب لم يكن بينها وبين البحر حجاب». ص41. وفي نص (ظلام) تعود المرأة مرة ثانية وتمزق قطعة قماش سوداء أسدلتها تقاليد اجتماعية على عينيها وحجبت عنها رؤية الطريق «أزاحت الغلالة السوداء من عينيها.. أبصرت المصابيح المعلقة تتلألأ في أسقف المتاجر». ص45. ونجد في أقصوصة (لص)، سرقة ثروات الأرض في ظل المجاعة. وانتقالا إلى (ذكرى) يجسد القاص بأسطر قليلة وبرمزية مكثفة ودلالات إيحائية تنكأ جراحات الماضي المتمثلة في نكبة 67 العربية. «انهمك في إزالة الغبار من بندقيته (ستينية الصنع.. ثمانون رصاصة كانت في عهدته نفذت كلها في الهواء الطلق». ص47. ومضة مكابدة وفي ومضة (مكابدة) يخطئ الصقر في حساباته، ويعود (لغفوته من جديد) بعد مطاردة مضنية لسحابة ممطرة، ظنها واحدة من طرائده. «استفاق الصقر من إغفاءة قصيرة، نفض جناحيه الأسودين، رأى سحابة مكللة بالبروق تجري في السماء، هب لمطاردتها وعندما شعر بالهزيمة، أدرك أن هذه سحابة وليست طريدة، تدفق قليل من غيث السحابة على قمة الجبل..أسدل الصقر جناحيه وعاد لغفوته من جديد». ص43. أما في (صحراء) فيعود بطل الأقصوصة من رحلته الصحراوية محبطا خالي الوفاض، بعد معركة شاقة مع ذئب شرس كان يتربص للفتك بغزالة هائمة في متاهة الصحراء، حاول القناص اصطيادها قبل أن يشتبك مع خصمه الذئب ويرديه قتيلا.. «إنه لمن غرائب الأقدار أن يصبح المنتصر في هذه المعركة هي الغزالة.. بفعل دوي الرصاص ، هربت الغزالة مذعورة إلى مجاهل الصحراء ولم يعد يرى لها أثرا». ص 53. * قاص سعودي