منذ انتهاء المواجهة العسكرية بين إسرائيل وحزب الله في الصيف الماضي، ولبنان دخل في أزمة سياسية لا تقل شراستها وخطرها عليه عن المواجهة العسكرية مع الكيان الصهيوني، إذ تمثل الأزمات السياسية بالنسبة للبنان عنصر تهديد كبير جداً لوجوده إذا لم تحل بشكل سليم، فقد اختلف اللبنانيون منذ البداية حول تشكيل المحكمة ذات الطابع الدولي ما بين مؤيد، ومعارض لها، بحيث أصبحت آراؤهم حولها متباعدة جداً، وأخيرا صدر قرار تشكيلها من مجلس الأمن الدولي ليزيد من الانقسام في ما بينهم. كما أن أزمة الاعتصام وتعطيل القسم التجاري من قلب بيروت، من قوى 8 آذار مطالبة بمطالب عدة من ضمنها تشكيل حكومة وحدة وطنية، إضافة إلى أزمة الرئاسة التي بدأت تطل برأسها على اللبنانيين لتخلق مزيداً من الانقسام والتوتر بين الفرقاء كافة، وأخيراً ظهور مشكلة"فتح الإسلام"لتعصف بلبنان المثقل بالأزمات، مضيفة مزيداً من التعقيد والتأزم بين اللبنانيين أنفسهم، وكذلك بينهم وبين الفلسطينيين... كلها زادت من مشكلات هذا البلد، حتى انه بدا في بعض الأحيان أن مشكلات هذا البلد مستعصية على الحل، بسبب أن كل هذه الأزمات التي تعصف بلبنان يتحكم فيها في كثير من الأحيان المعطيات الآتية: 1- المصالح الدولية: تتحكم في لبنان مصالح دولية كثيرة، خصوصاً المصالح الغربية الولاياتالمتحدةوفرنسا وغيرهما من الدول الغربية وذلك لارتباطات ثقافية وتاريخية، خصوصاً مع فرنسا، إذ كانت الدولة المحتلةللبنان، وارتبطت بشكل وثيق معه، خصوصاً مع الطائفة المسيحية اللبنانية، إضافة إلى دخول إيران كدولة ارتبطت بالمصالح اللبنانية، خصوصاً بعد الثورة الإيرانية عام 1979، وذلك من خلال رعايتها ودعمها لحركة أمل، وحزب الله في لبنان، لذا نرى أن هناك تقاطعاً قوياً في المصالح الدولية في لبنان مابين الولاياتالمتحدة الأميركية وفرنسا وباقي الدول العربية من جهة، وإيران من جهة أخرى، وتقاطع جميع مصالح هذه الدول آنفة الذكر مع المصالح العربية واللبنانية في لبنان. 2- المصالح العربية: ارتبط لبنان ارتباطاً وثيقاً بالمصالح العربية منذ نهاية الأربعينات وحتى الآن، خصوصاً مع سوريا كجارة له، وعلاقات تجارية وأسرية، وغيرها، وكذلك مع مصر منذ عهد جمال عبد الناصر، إذ أثر صراع المصالح بين هذه الدول والمصالح الدولية آنفة الذكر في لبنان على العلاقات المتقاطعة بين الأطراف كافة. وكذلك ارتبط لبنان تجارياً بشكل كبير مع دول الخليج العربية ذات الاقتصاديات المزدهرة، ما دفع الطرفين إلى التقرب في كثير من المجالات، خصوصاً في المجالات الاقتصادية والتجارية، إذ كانت تجارة الخليج تمر عبر لبنان، خصوصاً في فترة الستينات وبداية السبعينات وامتدت إلى الآن لتصل إلى علاقات أخوية قوية، خصوصاً مع المملكة العربية السعودية. 3- الوجود الإسرائيلي: إن وجود حدود مشتركة بين لبنانوفلسطينالمحتلة جعله عرضة للاعتداءات الإسرائيلية سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، إذ تعرض لبنان لحروب إسرائيلية عدة بسبب وجود المنظمات الفلسطينية أو بسبب مواقف لبنان والضغط من خلاله على باقي الدول العربية، وتعتبر إسرائيل لبنان الأضعف في الحلقة العربية، وذلك لتنفيذ بعض مخططاتها في المنطقة. 4- الوجود الفلسطيني: أثر الوجود الفلسطيني في لبنان سواء على شكل لاجئين، أو بعد نزوح منظمة التحرير الفلسطينية من الأردن إلى لبنان بعد أحداث 1970 بشكل كبير على التركيبة والتوجه السياسي اللبناني، وكذلك على التركية الديموغرافية اللبنانية... كما أن الوجود الفلسطيني المسلح جعل لبنان معرضاً للتهديد الإسرائيلي، كما أنه زاد التوتر بين اللبنانيين وأدى إلى اندلاع حرب أهلية بينهم استمرت 15عاماً، إضافة الى بقاء سلام المخيمات خارج نطاق السلطة اللبنانية. 5- النظام السياسي اللبناني: إن نظام المحاصصة الطائفية اللبناني هو نظام مولد للأزمات، وهو ما ذكره المفكر اللبناني الدكتور غسان سلامة وزير الإعلام والثقافة السابق في محاضرة له على هامش فعاليات معرض الكتاب الدولي في الرياض قبل ثلاثة أشهر، فكلما خرج لبنان من أزمة بتدخل من أشقائه العرب، عاد إلى أزمة ثانية بسبب تباين وجهات النظر والمصالح بين اللبنانيين. إن موقع لبنان الجغرافي كبوابة تجاه أوروبا لبلاد الشام وسائر الدول العربية من الغرب، هو ما جعله محل اهتمام وما فرض عليه أن يتأثر بالحضارات الغربية وبثقافاتها المختلفة سواء فرنسية أو إنجليزية أو غيرها. كما أن وقوعه على خط التماس بين سورية وإسرائيل، فرض عليه أن يتأثر ويؤثر بأزمة فلسطين الدائمة ويصبح جزءاً من المشكلة ومن الصراع الدولي على النفوذ والمصالح الدولية بشكل كبير. والسؤال المطروح هو هل أصبح لبنان إحدى النقاط الرئيسة للحرب على الإرهاب التي تعتمدها الولاياتالمتحدة في استراتيجيتها في هذه الحرب؟ أم أنه إحدى وسائل الضغط المستخدمة من الأطراف كافة ذات العلاقة في لبنان لتعزيز مواقعها التفاوضية؟ إن ظهور جند الشام وجماعة الضنية وجماعة الأحباش واليوم فتح الإسلام، هي مؤشرات على دخول لبنان مرحلة من الصراع السياسي بين مختلف الأطراف المحلية والإقليمية والدولية بغية تصفية حساباتها مع بعض على الأراضي اللبنانية مثلما حدث في حرب الصيف الماضي بين حزب الله وإسرائيل. إن حل الأزمة اللبنانية يحتاج إلى جهود مضنية وتضحيات جسيمة من اللبنانيين قبل غيرهم، وكذلك يتطلب منهم الابتعاد عن التأثيرات الخارجية بأشكالها كافة، فلبنان دولة عربية ومحيطها عربي، فالأولى أن يكون العرب هم من يسعون لحل مشكلاتها، وهو ما تقوم به المملكة العربية السعودية ممثلة في سفيرها النشط الدكتور عبدالعزيز خوجه للبحث عن مخرج للأزمة التي أصبحت مستعصية على الحل، بحيث ازدادت الخشية أن تكون ظاهرة"فتح الإسلام"ما هي إلا مقدمة لأزمات كبيرة ستعصف بلبنان وتدخله في أقوى حرب لا يعلم مدى تأثيرها إلا الله سبحانه تعالى. إن التدخل الغربي المكشوف يجعل المراقب يستغرب هذه الحماسة الغربية لمساعدة لبنان، بينما الفلسطينيون يتعرضون لأبشع الغارات الإسرائيلية في غزة ورفح وغيرها، وهو ما يربط الأزمة اللبنانية وغيرها من الأزمات العربية بالقضية الفلسطينية، ما يحتم البحث عن حل جذري لها لإطفاء باقي المشكلات التي تشتعل هنا وهناك وتؤثر في المنطقة بشكل كبير. لذا فإن الحماسة الغربية يجب أن تتجه إلى إسرائيل والضغط عليها لحل القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، ليكون منطلقاً لحل جميع مشكلات المنطقة والمفتاح هو الاعتراف بالمبادرة العربية للسلام وعدم المراوغة من الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل في تبنيها كمنطلق وأساس لسلام عادل وشامل في المنطقة. إن حل الأزمة اللبنانية لن يكون إلا بالتقاء الفرقاء اللبنانيين حول طاولة مفاوضات وبرعاية عربية حصرية وإبعاد الأطراف غير العربية تماماً عن لبنان للوصول إلى حل، وذلك برعاية من الجامعة العربية ومن المملكة العربية السعودية بالذات كرئيسة للقمة العربية التاسعة عشرة، وباقي الدول العربية الأخرى ذات التأثير، وأعني هنا الدول العربية الثلاث المؤثرة المملكة العربية السعودية ومصر وسورية للوصول إلى حل عادل ومنصف يقي لبنان شر التشرذم والفتنة التي لن يكسب منها غير العدو الصهيوني وأعداء الأمة العربية. * عضو مجلس الشورى.