منذ نهاية حرب الخليج العام 1991 والكلام يدور بين حين وآخر على توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق، كجزء من اتفاق الحل النهائي الذي يتوقع أن ترسو عليه مسيرة التسوية السلمية للصراع العربي - الإسرائيلي. وبعدما ظل معظم هذا الكلام يقال خلال السنوات الماضية همساً داخل حلقات اقليمية ودولية ضيقة أو يقتصر على سيناريوات تتداولها مراكز البحوث السياسية والاستراتيجية، تواتر الحديث عنه أخيراً، وجهاراً هذه المرة، ربما بسبب الاقتناع المتزايد باقتراب موعد الحل النهائي وضرورة التوصل إلى اتفاق بشأن مستقبل اللاجئين الفلسطينيين، القضية المعلقة من بين قضايا شائكة أخرى - ولكن جوهرية - في المفاوضات الفلسطينيية - الإسرائيلية. وفي ظل جو الريبة والغموض الذي يكتنف مستقبل كلا القضيتين العراقية والفلسطينية، فإن إثارة هذا الموضوع وتسخينه لا بد أن يستفز الكثير من الاسئلة الكامنة في الصدور. بداية لا بد من تأكيد أن توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق، على افتراض أنه مطروح فعلياً على جدول أعمال المنطقة وهي تتهيأ لترتيب أوضاعها لمرحلة ما بعد السلام، ليس موضوع إشكالياً إلى حد كبير بسبب ما يحيط به من غموض ناتج عن قلة المعلومات المتداولة عنه خارج نطاق الأطر الضيقة المعدودة التي يتسرب منها الحديث بين فترة وأخرى، ما يجعل منه أحياناً لغزاً من بين تلك الألغاز الكثيرة التي أضحت سمة أساسية لمجمل العملية السياسية الجارية في عالمنا العربي، التي تتم غالباً في غياب النقد والشفافية وفي نطاق القسر والاحتكار. مع ذلك، وحتى في ظل غياب القرائن والوثائق، فإن توطين اللاجئين الفلسطينيين في العراق أصبح في نظر الكثير من المراقبين موضوعاًَ يتجاوز الهواجس والظنون الى احتمالات قائمة وربما الى مشاريع جاهزة يدعم الركون إليها معطيات ومدلولات، هي جزء من محصلة تفاعل المنظور الإسرائيلي المستقبلي والتصورات الموضوعة للمنطقة والأداء العربي الكسيح عبر أكثر من نصف قرن. هناك وجهان للمسألة المطروحة يساعدان على ترويج افتراض أن العراق هو الوطن البديل لملايين اللاجئين الفلسطينيين ضمن إطار الحلول المقترحة لهذه المشكلة. الأول يتعلق بطبيعة مشكلة اللاجئين ذاتها والتحديات التي ستفرضها على جميع المعنيين بحل الصراع العربي - الإسرائيلي، الأمر الذي يتطلب حلولاً مبتكرة، ليست بالضرورة قائمة على قرارات الأممالمتحدة الخاصة باللاجئين كالقرار 194 أو مبادئ العدالة والحق، وإنما تستند، شأنها شأن التسوية الجارية، على موازين القوى القائمة بين العرب والإسرائيليين. والثاني هو الذي تمر به القضية العراقية منذ حرب الخليج وازدياد الاعتقاد في أن الخروج منه يكمن ليس في تطبيق قرارات الأممالمتحدة الخاصة بأزمة الكويت وحرب الخليج، بل عبر صفقة شاملة ترتبط بسيناريوات الترتيبات المقبلة للمنطقة عموماً. فبالنسبة إلى الشق الأول فإنه استناداً الى اتفاق أوسلو ومذكرة شرم الشيخ الأخيرة، فمن المقرر أن تبدأ مفاوضات مرحلة التسوية النهائية التي ستعالج من بين قضايا أخرى تحدي مستقبل الملايين من الفلسطينيين من لاجئي العام 1948، إضافة إلى نازحي العام 1976. الموقف الفلسطيني المعلن من المشكلة معروف ويرتكز على ضرورة تطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194 الصادر في 11 كانون الأول ديسمبر 1948 والداعي إلى "وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن، للاجئين الراغبين في العودة الى ديارهم، والعيش بسلام مع جيرانهم ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة...". أما الموقف الإسرائيلي الذي تم التأكيد عليه في كل المحافل ومن بينها جولات لجنة اللاجئين في المفاوضات المتعددة، فقد ركز على رفض هذا الطرح جملة وتفصيلاً مقدماً بدلاً عن ذلك رؤية تلفيقية بديلة تقوم على أن ليس هناك قضية لاجئين وأن الموضوع برمته مفتعل من الأطراف العربية، وأن الفلسطينيين الذي شردوا من ديارهم هم ضحايا عدوان الجيوش العربية على إسرائيل وإن مفتاح حل المشكلة يكمن في يد العرب. فكرة الرفض الإسرائيلية تقوم على مرتكزين، مبدئي لأن القبول بالعودة يعني الإقرار بمسؤوليتها عن المشكلة وتحمل تبعية حلها، وعملي وهو اعتقادها أن عودة هذه الملايين من الفلسطينيين تشكل خطراً ليس على لحمة المجتمع الإسرائيلي وهويته اليهودية الصهيونية فقط، بل على أمن الدولة واستقرارها. بين هذين الموقفين المتباعدين سيتم الصراع على مستقبل اللاجئين الفلسطينيين بين طرف ضعيف يتسلح بقرارات الشرعية الدولية، لكن من دون أوراق ضاغطة وبين طرف قوي يمتلك كل إمكانات فرض موقفه من دون أي اعتبار، كون النتيجة المتحققة توفر حلاً منصفاً ودائماً أم لا. من هنا تأتي مخاوف بعض الأطراف العربية التي تستضيف اللاجئين الفلسطينيين من أن يكون أي حل لقضيتهم على حسابها ما سيعرضها الى الكثير من الضغوط والتوترات بهدف دفعها لتقبل الخيارات الإسرائيلية الداعية الى التوطين وهي خيارات مثلما يراها معظم اللبنانيين ليست استفزازية فقط، بل مدمرة أيضاً. إن كل هذا يعني أن قضية اللاجئين ستجد نفسها، مثلما هو متوقع، على جدول الأعمال السياسي للمنطقة كلها وليس فقط مائدة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية ما يفرض على العرب تحدياً خطيراً لن ينفع في مواجهته الدعوة الى التمسك بقرارات الأممالمتحدة والقانون الدولي، وإنما مقاربات موضوعية من أمثال تلك التي جرت على أساسها عملية السلام برمتها منذ كامب ديفيد 1979 وحتى شرم الشيخ 1999. أين العراق من كل هذا؟ يشير معظم التحليلات السياسية الى أن الازمة العراقية الحالية والتي سمتها الرئيسية استمرار عزلة البلد الخارجية ومحاصرته في ظل نظام عقوبات مجلس الأمن وسياسة الاحتواء الاميركية ارتبطت ارتباطاً شديداً بجهود إعادة تشكيل النظام الاقليمي لمنطقتي الشرق الأوسط والخليج العربي عقب أزمتي حرب الخليج وانطلاقة عملية السلام العربية - الإسرائيلية. فلم يعد مرفوضاً، من وجهة النظر هذه، الربط بين الحرب وأثارها على المستوى العربي وبين عملية السلام من حيث العلاقة بين السبب والنتيجة. كما أن أغلب التنبؤات السياسية الناتجة من هذه التحليلات تنحو اليوم الى القول إن حل الازمة العراقية لا بد أن ينتظر استكمال العملية السلمية على بقية الجبهات قبل ان تضم الحلقة العراق ذاته إحكاماً للإطار الاقليمي الذي سيتبلور لحماية التسوية السلمية وضمان استمرارها. وإذا كانت هذه مجرد تنبؤات لحد الآن، فإن تحقيقها، من وجهة النظر هذه أيضاً، لا بد أن يتطلب صفقة شاملة سواء بين النظام العراقي الحالي الذي يتطلع الى إعادته للحظيرة الدولية أو أي نظام آخر يحل محله وبين إسرائيل، قد تتضمن من بين قضايا أخرى مساهمة العراق بحل مشكلة اللاجئين من خلال القبول بتوطين البعض منهم فيه. إن تنفيذ مثل هذا السيناريو سيحدث إنقلاباً جذرياً في أوضاع المنطقة قد تعجز حتى التنبؤات الحالية عن إدراك أبعاده ونتائجه، ولكن تلك قضية أخرى، أوسع. أما توطين الفلسطينيين في العراق فإنه بلا شك سيكون موضوعاً مثيراً للكثير من النقاش والجدل بين العراقيين حالما يتضح أن الأمر أكثر من مجرد افتراضات نظرية أو مشاريع تقبع فوق رفوف مراكز الأبحاث والدراسات. فالمؤكد أن القضية بالنسبة الى العراقيين، مثلما هي لدى اللبنانيين، تكتسب جدية فائقة نظراً الى التركيبة السكانية للبلد القائمة على التعدد القومي بين العرب والأكراد والتركمان والاقليات الأخرى وكذلك التنوع الديني والمذهبي بين مسلمين ومسيحيين وغيرهم وبين شيعة وسنة وهي حقيقة لن يمكن التعالي عليها حتى من قبل أشد العروبيين الذين قد ينظرون الى المسألة من زاوية قومية. وبمعنى آخر فإن توطين مليوني فلسطيني في العراق، مثلاً: سيعني إخلالاً واضحاً بالتركيبة السكانية الحساسة الذي سيقلبها رأساً على عقب لمصلحة السُنة العرب مقابل كل من الشيعة والأكراد الذين سيرفضون التوطين بالتأكيد باعتباره عامل ترجيح مذهبي وقومي، وبالتالي سياسي لغير مصلحتهم، في الوقت الذي طال انتظارهم لتحقيق تمثيل أفضل ضمن المعادلة السكانية/ السياسية القائمة. ومع هذا فليس مؤكداً أيضاً أن سُنة العراق سيرحبون بدورهم بعملية توطين اللاجئين الفلسطينيين لو جرت بهذا الشكل السافر باعتبارها ستساهم بإحداث شرخ وطني في ظرف يسعون فيه، مثلهم مثل باقي العراقيين، لتجاوزه بالوحدة والتضامن. ومن المرجح أن مثل هذا المشروع سيتجاوز بعده العراقي لكي يثير ردوداً متباينة من قبل جيرانه العرب رفضاً أو تحفظاً كما هو متوقع من كل من إيران وتركيا أو قبولاً وترحيباً من الدول العربية المجاورة، الأمر الذي سيوقظ تناقضات إقليمية ظلت حتى الآن هاجعة. ومع ذلك، فالملاحظ أن هناك سكوتاً مطبقاً من جانب الحكم العراقي الذي لم يعلق، لحد الآن، لا على سيناريوات الصفقة ولا على احتمالات التوطين، رغم أن الموضوع تجاوز أخيراً الهمس الذي بدأ به. ورغم أن الخطاب الرسمي ظل ملتزماً طوال سنوات الأزمة بثوابته المعادية لإسرائيل والرافضة للعملية السلمية فإن دعاة نظرية الصفقة يشيرون الى المرونة العالية التي أظهرها الحكم العراقي في تجارب سابقة اضطر فيها التساهل في التزاماته الايديولوجية لمصلحة مزايا ومكتسبات سياسية ما يجعل إمكان تحقيق ذلك قائمة حالما يتم التلويح له بحل مناسب لإخراجه من أزمته. على الطرف الآخر هناك المعارضة العراقية التي تتصدى لمهمة تبؤ البديل، والتي بدورها لم تبد أية وجهة نظر إزاء مشاريع التوطين خصوصاً أن هذه السيناريوات تفترض إن ذلك سيكون بعضاً من الثمن الذي سيقدّم لدعمها في تسلم السلطة. إن سماع صوت العراقيين، حكومة ومعارضة، مثلما انطلق صوت اللبنانيين، سيساعد بلا شك على إزالة الكثير من اللبس والشكوك حول قضية من المؤكد أنها ستتبوأ الهم الوطني خلال الفترة المقبلة. * كاتب عراقي.