هناك مساحات مكانية محددة تأبى الا ان ترسل لك مجموعة من المعاني لا تستطيع تجاهلها حتى لو اردت ذلك، خصوصاً الاماكن التي يصنعها الانسان بنفسه سواء كان ذلك عن وعي او من دون وعي. تلك الضفة من طريق الملك عبدالله المقابل للمدخل الرئيس لجامعة الملك سعود، وعلى امتداد سور الجامعة تتكدس فيها مجموعة كبيرة من المطاعم ومحال بيع المواد الغذائية بشكل لافت للانتباه، هذه المساحة التي تفتقد الى اي نشاط يدل على انك على بوابة اكبر جامعة في الوطن العربي من حيث المساحة وعدد الطلاب. هل من المعقول انه لا توجد مكتبة واحدة لبيع الكتب او حتى مقهى مصمم بشكل يستوعب عدداً كبيراً من الشباب يستطيعون ان يتناولوا فيه وجباتهم الفكرية، حتى ولو كانت خفيفة، الى جانب وجباتهم الغذائية ومشروباتهم الساخنة منها والباردة؟ ربما توفر هذه الجامعات بعض الخدمات، داخل اسوارها لمن اراد ذلك، وهذا صحيح، ولكن هذه المساحة الجغرافية المحدودة تعطي معاني أبعد من ذلك بكثير، أبعد من مسألة الاكل والشرب، إنها تعني انفصال الجامعة عن بيئتها المحيطة. وأكثر من ذلك ان النشاط التجاري، في هذه البقعة تحديداً، لا يعترف بأي نوع من الخصوصية لمتطلبات اكثر من 40 ألف طالب من الذكور فقط، دعك من الطالبات وعددهن نحو 25 الف طالبة او يزيد. ومع انه يفترض ان تقوم علاقة تفاعلية في هذه المساحة المكانية بين طلاب الجامعة والقطاع الخاص الذي اقام نشاطاته التجارية بعد فترة زمنية من بناء المدينة الجامعية، واقل ما فيها ان تتسابق المكتبات الكبيرة ودور النشر لاشغال هذه المنطقة بمنتجاتها والتي يشكل قطاع الطلاب وسكان المدينة الجامعية معظم زبائنها نظرياً على اسوأ حال. بالنسبة لي المكتبات والمقاهي ليست الا رمزاً لعلاقة القطاع الخاص بالجامعة، لذلك لا نستغرب انهم في العقدين الماضيين، وعند بداية سد حاجات القطاع الحكومي من خريجي الجامعات، وتطلع الخريجين للانخراط في القطاع الخاص بعد مناشدات الدولة لهم بتحمل جزء من مسؤولية توظيف هؤلاء الخريجين. مع الأسف، القطاع الخاص لجأ الى وضع الشروط التعجيزية أمامهم، مثل اتقان مجموعة من اللغات الأجنبية قراءة وتحدثاً وكتابة، وخبرات عملية لا تقل عن خمس سنوات في بعض الاحيان و 15 عاماً في احيان اخرى. والسؤال البديهي من الذي سيترك عمله بعد ان استقر به المقام 15 عاماً ليذهب الى القطاع الخاص بأجر أقل، ويبدأ مشواره من جديد؟ وبدلاً من ان يقوم القطاع الخاص بالسعي لاستقطاب هؤلاء الخريجين وفسح المجال لهم لاكتساب الخبرات والتدرج الوظيفي، اخترع طريقة جديدة للاستفادة منهم، وليس افادتهم، وهو افتتاح المعاهد ومراكز تعليم اللغة الانكليزية والحاسب الآلي، واتجه الخريجون بكل براءة وبكل سذاجة للالتحاق بهذه المعاهد برسوم دراسية تُدفع من جيوب اولياء أمورهم، معتقدين انهم قادرون على تجاوز الشروط الوظيفية فور حصولهم على شهادات دورات هذه المعاهد، لاقامة الحجة عليهم، ولكن القطاع الخاص كان أكثر دهاءً مما يتصورون، فخرجوا لهم في السنوات القليلة الماضية بمعضلة مخرجات التعليم ومتطلبات سوق العمل، وأصبحت هذه المقولة تتردد على كل لسان. انا هنا لا أبرئ الجامعات السعودية، فتطور الجامعات وبرامجها عملية ضرورية يجب ألا تتوقف عند سقف معين، ويجب ألا تنتظر من يطلب منها هذا التطوير، ولكن الحلقة المفقودة هنا، هل هناك جامعة على وجه الكرة الارضية تخرج طلاباً جاهزين ومدربين للعمل أياً كانت الجامعة، ومهما كانت نوعية العمل؟ أم انهم يحتاجون الى بعض الوقت لكي يتكيفوا ميدانياً مع متطلبات العمل الفعلية! والسؤال البديهي الآخر هو لو أن الجامعات تخرج طلاباً جاهزين فعلياً، وان حديثي التخرج من الجامعات لا تتوافر فيهم شروط العمل ومتطلبات السوق بسبب التغيرات التقنية، وتغير متطلبات العمل نفسها، فكيف يمكن لكل هؤلاء الخريجين من السعوديين وغيرهم ان يستمروا في اعمالهم؟ لاننا اذا سلمنا بهذه المقولة فإن كل موظفي الدولة والعاملين في القطاع الخاص، والذين مضى على تخرجهم خمس او عشر سنوات، تصبح منتهية صلاحيتهم، وعلى ذلك يجب استبدال نوعية من الخريجين بهم ليست موجودة حالياً في اي بقعة من بقاع الأرض، لان كل الجامعات تعطي الطالب اساسيات تخصصه، وتبني شخصيته القابلة للتعلم واكتساب المهارات الجديدة بسرعة فائقة، اي ان العملية التعليمية هي بالاساس عملية منهجية في التفكير، وقدرة على التعلم اثناء الممارسة، وهذا اقصى ما تستطيع ان تقدمه اي جامعة في العالم، وجامعاتنا يجب ألا تكون استثناءً من هذه القاعدة. ولكي تكون الصورة واضحة، وبحكم التجربة الشخصية، وطبيعة التخصص، سأعطيكم مثالاً واحداً فقط، تصوروا لو ان رئيس تحرير جريدة انتظر قسم الاعلام حتى يقدم له صحافيين جاهزين؟ إذاً فستبقى الجريدة خالية من خريجي قسم الاعلام حتى تقوم الساعة، ولن ينعم هو نفسه بتقبل التهاني من المسؤولين والمواطنين بوصول الجريدة الى"السعودة"الكاملة لجهازها التحريري قبل اكثر من عشر سنوات، ولكنه برؤيته المستقبلية فتح باب الجريدة على مصراعيه لأي خريج والميدان يا حميدان فمن يثبت رغبته في التعلم وتطوره يستمر في الجريدة، ومنهم من من وصل الى رئاسة تحرير في صحف أخرى، ومنهم أيضاً من لم يستمر في العمل لأكثر من أسبوعين. طبيعي ان لكل مهنة ظروفها، ولا يمكن نقل تجربة جريدة ما حرفياً الى المؤسسات الأخرى، وكذلك لا يمكن مقارنة متطلبات تأهيل الطبيب والصيدلاني والمهندس بمتطلبات المهنة الاعلامية والطبيعة الاشرافية لجريدة تسمح بوجود الحماقات التي يرتكبها الخريجون اثناء ممارساتهم الأولى، لأنها لم تصل الى الجمهور، ولكن ميزة التجربة هي اعطاء الفرصة من دون تردد لأنه ب مثلاً لا توجد مشكلة حين يتعلم الشاب العمل الصحافي في جريدة وينتقل الى جريدة اخرى، أليس هذا المنتج، في التحليل النهائي، مكسباً للمهنة نفسها ولتطوير الصحافة السعودية بشكل عام؟ وفي المقابل هناك من مارس المهنة في صحيفة وأتى الى جريدة أخرى جاهزاً، فأين الخسارة إذاً؟ ولكن عندما تتخذ الذرائع لعدم اعطاء الفرصة بسبب وجود بدائل الاجور المتدنية، انه مهما طورت البرامج فستكون هناك حجج جديدة تستخرج وقت الحاجة، اما مشكلة برامج الجامعات وضعف مستوى بعض خريجيها والثغرات الموجودة في منهجياتها، فسأتناوله في الأسبوع المقبل. * أكاديمي سعودي