ما أن يحمل الإنسان المهاجر حقائبه بيده، وتتحرك قدماه بعيداً من المكان الذي ألفه وعاش فيه، حتى تهرب الذاكرة منه شيئاً فشيئاً، كما لو انه لم يكن موجوداً، هذه هي حال علاقة الإنسان بالمكان. ولكنّ لمدينة الزبير عشاقاً، رسخ حبها في أفئدتهم، وتلذذت خلايا ذاكرتهم بحلاوة أيامها، تراها بكل ما فيها عالقة في حواسهم أيضا، كل منهم يحمل منها ملامح يبقيها حية في يقظته وفي حلمه على رغم بعدها المكاني وعلى رغم تلاشيها خلف ركام الزمان. فما هي تلك المدينة؟ وأهلها الذين عشقوها وارتبطوا بها ارتباطاً وثيقاً على رغم ما يفصلهم عنها من مسافات وأزمان من يكونون؟ نتيجة للجفاف الذي اجتاح منطقة نجد منذ بضعة قرون مضت، والذي سبب قحطاً ومجاعات، اجبر بعض سكان المنطقة على الهجرة إلى المناطق المجاورة، وكان من بينها"مدينة الزبير"التي كانت تتميز بموقع مهم، بالنسبة إلى أهل نجد، إذ تعتبر إحدى القناطر المهمة التي تصل بين جزيرة العرب والعراق، فهي الملتقى بين البصرة والكويت ومنطقة الخليج العربي عموماً، كما انها محط رحال القادمين والقاصدين حج بيت الله الحرام. اتخذت تلك الجماعات النجدية الأصل مدينة الزبير مقراً لهم، شيدوا فيها دوراً للسكن، وحموا المدينة ببناء سور حولها يمنع دخول أي غريب لها، أطلق عليه اسم"سور الزبير"هؤلاء هم أهل الزبير، والذين هم جزء من بلاد العرب، لهم عادات وطبائع تميزهم عن غيرهم من أهل المنطقة. ويوم نزلوا ارض العراق مجاورين البصرة لم يغيروا من عاداتهم الاولية وتقاليدهم الموروثة شيئاً، إنما حافظوا عليها وتأثروا بها. ونشأ في الزبير رجال ونساء، جمع بينهم الأصل والمنبع والذكريات، منهم العلماء والأدباء والمفكرون، والفنانون في مجالي الفن التشكيلي والتصوير الفوتوغرافي، رفعوا بعلمهم وأدبهم وفنهم شأن مدينة الزبير التي ولدوا فيها ونشأوا على أرضها، وعلوا بمكانة المملكة العربية السعودية بلدهم الأم إلى أسمى قمم النجاح والتقدم. لكن هل يمكن أن نتساءل، هل تلك المدينة الصغيرة، التي فتنت أهلها ذوي الجذور النجدية من الأدباء والشعراء، وكانت اشد تأثيراً في حياتهم، كان لها تأثير مباشر في مسيرتهم الثقافية؟ وهل ألقت ذكريات تلك المدينة ظلالها على كتاباتهم؟ وماذا تمثل الزبير لهم الآن؟ تقول الأديبة الكاتبة شريفة الشملان، التي تعد واحدة من بنات الزبير:"مكان الطفولة بالنسبة إلى كل فرد في العالم يتمتع بوضع خاص عاش حياته من خلاله: الملاعب، المدارس، الطرق والحوادث، حتى تغيرات الجو صيفاً وشتاء. وهكذا، تنهال علي أحياناً الذكريات، ذكرى الشتاء والمنقلة ونار الغضى، ذكرى تنور جدتي ونحن حوله ننتظر الخبزة الصغيرة، التي نسميها"حنوة"، وفي رمضان ننتظر صوت المؤذن، وتشوقنا ليوم العيد واللهو في الدواليب، وأشياء كثيرة تنهمر على الذاكرة". وتواصل الشملان حديثها عن مسقط رأسها" بالتأكيد مدينة الزبير أثرت في، و ربما يأتي هذا التأثير للمكانة الخاصة جداً التي تتميز بها الزبير، فهي مدينة عراقية وليست بعراقية، نجدية ولكنها بعيدة، فنحن أهل تلك المدينة نعيش نجد ونسكن العراق، وقد تمثل تلاحماً جميلاً بين المنطقتين". وتضيف الشملان"عندما كنا ندرس عن السومريين والبابليين كانوا يقولون عنهم إنهم أقوام نزحوا من أواسط شبه الجزيرة العربية، فكنا نمد أعناقنا فخراً".وعن ماذا تعني لها الزبير الآن قالت:"الآن تمثل لي ذكرى جميلة مررت بها، عادة نحن نرتبط بمن يسكن المواقع لا بالمواقع نفسها... إن الزبير ما تزال تلقي بظلالها على كتاباتي، فطفولتنا ومراهقتنا التي قضيناها هناك جزء أساسي من تكويننا". أرض محملة بالتاريخ إلى حد الإعياء وعن مدى تأثير البيئة في حياة الشعراء، يقول الأديب عبداللطيف الدلقان:"الإنسان يتأثر بالمكان ويؤثر فيه، فما بالك بالشاعر فهو اشد الناس تفاعلاً مع المكان بمفهومه النفسي والتاريخي والثقافي والاجتماعي". ويؤكد الدلقان تأثير"الزبير"فيه، بما انه ولد ونشأ وتعلم في الزبير، وذلك يبدو على قصائده الأولى، التي ظهرت فيها ملامح الزبير وصورها ومعانيها النفسية والبيئية والعاطفية،"أنا لم اكتب قصيدة حب إلى امرأة ما، ولكنها امرأة تمتزج بكل ما فيها مع"الزبير"ولا يمكن الفصل بينهما أبداً". ويلمح الدلقان إلى انه وأستاذه الشاعر الكبير الراحل محمود البريكان قد منحتهما الزبير الحرص على التجربة المتفردة في كتابة الشعر، فهي أرض محملة بالتاريخ إلى حد الإعياء فقد شهدت من الوقائع أمرها ومن الأحداث أحفلها، فهي ارض عصية لا تمنح نفسها بيسر". ويختم الدلقان حديثه معاتباً نفسه بأنه"شاعر مقل، فالنص عنده قد يستغرق عاماً كاملاً أو أكثر، وهو بذلك يصنع القصيدة صناعة لا تخل بوحشية ولادتها خصوصاً انه ابن الصحراء، وأثل الزبير علمه أنها عنوان للبراءة والصدق والنقاء والكلمة المسؤولة. ويتأثر أهل المدينة بخصائصها الجمالية، التي تظهر في بيوتها الطينية القابعة في أزقتها الضيقة، حيث يسكنها أناس يتسمون بالشفافية والطيبة. وتلك المدينة بكل ما تحمله من سمات جمالية تغري من يحب التصوير، بحمل آلته والتقاط صور تنطوي على ثراء روحي تعبق به مآذنها وأسواقها ومكتباتها وحاراتها القديمة. وهذا ما فعله ابن الزبير محمد الحميدان، الذي يملك محلاً للتصوير في تلك المدينة آنذاك، فهو طالما أجلسنا عبر صوره في احد مقاهيها، ومشى بنا في شوارعها، وتسلل بنا إلى دروبها الضيقة المعتمة.فهذا مسجد النجادة وهذه مدرسة النجاة وتلك سوق البنات وتلك مدرسة أسماء ومكتبة الباحسين، هنا مخبز الشمال وهناك في الزاوية يقف بائعو اللبلبي والباجلا بالعربات الخشبية الملونة، وحولهم الأطفال يستمتعون بمذاق ما يبتاعون منهم. ويروي الحميدان"كنت أتجول بآلة التصوير بين أماكن الزبير وأزقتها وجدرانها القديمة، لالتقاط بعض الصور والاحتفاظ بها كتراث لآبائنا وأجدادنا وأماكن وجودهم، وبصمات أيديهم المتمثلة بكل حبة تراب فيها". ويتذكر اللحظات التي كان يعيشها وهو يلتقط صوراً لتلك المحلة، وهذا المنزل الطيني، وهو يفكر في الأشخاص الذين حملوا الطين واللبن، وبنوا ذلك الجدار، وتدور في خاطره القصص التي كان الآباء يروونها للأبناء في ليالي الشتاء القارس. وشبه تلك القصص التي تحاكي المدينة وأهلها، بالصبغة التي تم طلاء صميم القلب بها، فهي لا تمحى إلا بالموت. ويقول الحميدان:"ربما أتذكر مدينة الزبير الآن أكثر من غيري، لأني أعيش كل يوم معها عبر الكم الهائل من الصور التي املكها في مكتبتي، ما يجعل من الصعوبة نسيان تلك المدينة الصغيرة القابعة في قلوبنا وفي ذاكرتنا".