لقد مضى على تأسيس المدرسة السعودية الأولى في المجمعة ثمانين عاماً، تعاقب عليها رجال أكفاء مخلصون، بذلوا لهذه الرسالة ذوب أنفسهم وعصارة خبراتهم. وإن الوفاء والعرفان سنة حميدة، ويأتي ذلك اعترافاً لأهل الفضل بفضلهم وتكريماً لهم على ما أسدوه لمجتمعنا في ظروف كان يعز فيها العطاء، وتقف فيها النفس عن طلب الجزاء. وإن الحديث عن الماضي ينطوي على جملة من المعاني، أولها شكر الله على ما وفق إليه ورد الجميل لأهله والاعتزاز به. ويسرني أن أستعيد من ذكريات الطفولة تاريخ مدرسة تمثل بدايات التعليم النظامي في معظم مناطق بلدنا، فقد أنشئت هذه المدرسة الابتدائية السعودية بالمجمعة سنة 1356ه، وما زلنا نتذكر هذه المدرسة ببنائها الطيني الجميل الذي شيدته أيادي أبناء هذه المدينة من طينها ورملها الذي كنا نفترشه فيها وسطحها الذي كنا نجلس على أرضه وخاصة في الشتاء، وقربة الماء المعلقة في دهاليز المبنى. كنا ننعم بالهدوء وصفاء النفس وعفوية الحياة والتواصل والترباط وبساطة الحياة ومكارم الأخلاق، بالرغم من شح الموارد والمرافق وسوء الحالة الصحية والغذائية وغير ذلك من صور الثالوث البغيض: الفقر والجهل والمرض. وهي حقائق عشناها وأصبحت اليوم تراثاً نعتز به ونراه مجسداً من خلال مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة. لقد تميزت مدينة المجمعة بسمات رائدة كلها مدعاة للفخر والاعتزا، فقد أنجبت العديد من العلماء والأدباء والشعراء والأطباء والمؤرخين والباحثين ورجال الأعمال الذين أسهموا في خدمة بلادنا المملكة العربية السعودية. وإن عطاء السنين لا يُقاس بالبعد الزمني. وكم يشعر الإنسان بالغبطة وهو يصور ضروباً من الذكريات التي طافت بالذهن عن أيام مرت عبر الطفولة والصبا فحفرت في أعماق النفس ألواناً من الصور المتنوعة. وفي تسجيلها إضاءة لمعالم الطريق للسائرين من الأجيال الصاعدة لمعرفة الأوضاع الاجتماعية والتربوية والاقتصادية التي كانت سائدة في الماضي، وما هي عليه الآن من رقي وتقدم ونهضة وتطور ملموس يجب أن يدفعنا إلى المزيد من العمل والعطاء المتجدد مع المضي قدماً. وإذا كان الرواد قد وضعوا أساساً ما زلنا نسير على نهجه، فإن ظروف العصر أضافت أعباء جديدة ومسؤوليات عديدة علينا أن نعيها، فلقد انتشر التعليم اليوم في جميع أنحاء المملكة. وللتعليم في هذه البلاد تاريخ متميز، وعندما يكتب ذلك سوف يلمع في ثنايا التاريخ مدارس ورجال كان لهم يد طولى في النهضة التعليمية ودفع عجلتها إلى الأمام. وسوف يكون من بين الأسماء المضيئة (المدرسة السعودية في المجمعة) فقد أضاءت للكثيرين دروب العلم والمعرفة والتعليم الذي هو أشرف الميادين. وهذه المدرسة معلم من معالم البداية الحضارية المشرقة في جميع أنحاء المملكة. فتحية لإدارة التعليم بمحافظة المجمعة على القيام بإصدار كتاب وثائقي عن المدرسة السعودية في المجمعة باعتبارها أول مدرسة نظامية، ولعل من أعظم ما تحرص عليه الأمم الاهتمام بكتابة تاريخها وتسجيل مآثرها والتعرف ببداياتها ومعالمها التربوية ومراحل تطورها، فشكراً لإدارة التعليم على قيامها بهذا العمل الرائد الذي يؤرخ لهذه المدرسة الرائدة ورحلتها التعليمية المباركة. وهذا يجسد أكرم تحية لهذه المدرسة ولرجالها الذين كان لهم أثر صالح في البناء التعليمي. والذكريات صدى السنين الحاكي تبقى محفورة في أعماق الوجدان وخلجات الإحساس في حصيلة تجارب وصور مفعمة في الحياة. من أجل هذا أجدني سعيداً أن أتحدث عن بعض الذكريات عن المدرسة السعودية الابتدائية في المجمعة، إذ كانت أول مدرسة نظامية، فلقد تلقيت بداية تعليمي بها حيث أمدتني بكثير من الوسائل والغايات التي بدأت أتطلع إليها، فهي بحق إحدى ركائر النهضة التعليمية في المنطقة، ونقطة انطلاق في التعليم، وكان لها فضل الإسهام في تكوين جيل واع مستنير، وما زلت كغيري من الزملاء نحتفظ في الذاكرة لها بالذكر الحسن: ذكرى لها قلبي يجيش ويخفق وبذكرها يشدو اللسان وينطق أمضيت أعواماً بها مغروسة في القلب ذكراها تضيء وتشرق أيامها الغر الحسان شواهد أرواحنا لك بالمحبة تورق وكان بها ثلة من المعلمين المخلصين الأوفياء، وكان لطلابها جد العلماء وحب المعرفة والتفرغ لطلب العلم، وكانت الدراسة تبدأ في شهر محرم وتنتهي في نهاية شهر شعبان من كل عام، وكان لا يشغلنا شيء عن طلب العلم، وكان الطلاب متعطشين للعلم والأساتذة يبذلون ما وهبهم الله من معرفة بكل إخلاص وجد واجتهاد، وكانوا فخورين بمعلومات الطلاب وسعة اطلاعهم ونسمعهم يتحدثون عن ذلك بكل اعتزاز في المدرسة وخارجها، وكان الطلاب يتنافسون ويتسابقون في العلم وتحصيله وترديد المعلومات وحب المناقشات ليلاً ونهاراً، وكانت هذه المدرسة تضطلع برسالتها بكفاءة. لقد كنا نعيش في مجتمع متواصل متماسك ملتزم بالقيم والمثل والتقاليد الراسخة والعادات الكريمة وحب العلم وأهله، وكان يوجد من الطلبة في هذه المدرسة من يحفظ المعلقات ومقصودة ابن دريد ولامية العرب ونونية ابن القيم، وكنا ونحن صغار نترنم بقصائد وأشعار كحوليات زهير وحماسيات عنترة وغيرها من ذخائر ابن القيم وتقام بها حفلات خطابية وتمثيليات ومسامرات ليلية عامرة بضروب الأدب وفنون الشعر والنثر، وهناك من الطلبة بل ومن الأساتذة من ينشدنا بصوته الرخيم وإنشاده الجميل حيث يمتاز بحسن الصوت وجودة الإلقاء وقوة الحفظ وحسن التأثير، ويحضر تلك الحفلات والمسامرات لفيف من أعيان البلد وزوارها وكانوا يعجبون مما يسمعونه من الكلمات والقصائد والأناشيد والتمثيليات وما زلت أتذكر بعض الأناشيد التي نوردها على سبيل المثال: نحن شباب المجمعة وليس فينا إمعة وكلنا محافظ على صلاة الجمعة وقصيدة أخرى مطلعها: نحن طلاب العلوم نزدهي مثل النجوم وأخرى: بشرى لنا يا رفاقي بشرى لنا بالتلاقي وغيرها كثير لا تحضرني وأنا أكتب هذه الذكريات على عجل. لقد كانت المدرسة السعودية في المجمعة في عز تألقها ومسارها التعليمي والتربوي، وكانت تضطلع برسالة علمية جليلة، وأذكر أن الفصل الذي كنت أدرس فيه في ذلك الوقت في عام 1365 - 1370ه حريصاً على العلم في كل شيء في العلوم الدينية والعربية والمحفوظات وفي الخط بأنواعه والإملاء في حفظ القرآن الكريم وتجويده والحديث وفي التمثيل والأناشيد، وأذكر من بين معلميها عثمان الصالح، وسليمان بن أحمد، وموسى عطار، وحمد بن الشيخ، وعثمان الحقيل، وعودة بن سليمان، وحسن حسونة، ومحمد التويجري، وعثمان النجران، ومحمد الركبان، ومحمد بن مقحم وهو رجل ظريف ينطوي على نفس رقيقة وروح شفافة وميل للدعابة تجلي ذلك من خلال تعاملنا معه في الفصل، ومن خلال أشعاره ولطائفه وظرفه، وما زلت أذكر القصائد البدائية له ولو أن أشعاره حفظت لكانت ثروة أدبية لطيفة وأثراً جميلاً من آثار تلك الحقبة. دخل ذات مرة علينا في الفصل وكان يدرسنا مادة الإملاء والمحفوظات فنظر إلى الطلاب وجمعنا في قصيدة مطلعها: ثلاثة أجبار سنان ودائل حقيلان صليحان ثمر مطوع حمود حميد والفريح أخيرهم مصابيح علم في دجى الجهل تلمع وكان رحمه الله شخصية مرحة ملأ جوانحنا باحترامه رغم شدته وقسوته في بعض الأحيان على بعض الطلبة، حرصاً منه على فرض النظام في الصف رغم أنه يتحمل في عمله الدؤوب الأذى من بعض الطلبة الأشقياء. ولقد ترك المجمعة وحزن الطلبة على فراقه حين سافر إلى بلاد تهامة، ولقد اشتاق إلى المجمعة وأهلها وطلابه ومن قصائده وشوقه: إلا ما مقامي في بلاد تهامة أدور في أسواقها وأجول كأن مدار الرزق في هضبانها أو إني بلا رزق أو الباب مقفل أقمت بها فصلاً علي كأنه ثلاثة أعوام أو الفصل أطول فجسمي تهامى وقلبي معلق بدار بها الأصحاب والأهل نزل فمن ذا يلوم القلب والقلب مولع ببرد هوى الفيحاء ومن ذاك يعذل وكن على قلبي جبال تهامة وكذاك طويق ثم رضوى وجندل وهي تنساب بسلاسة مؤثرة تزيد على ثمانين بيتاً. وهي قصيدة طويلة يصف فيها خط سيره من القنفذة إلى موطنه المجمعة وشوقه لها، لقد زخرت أيام الدراسة في هذه المدرسة بالأنشطة العلمية وحفلت بالتعاون والمحبة، لقد كنا نمضي ساعات طويلة في المدرسة صباحاً ومساء في رحابها أساتذة وطلاباً وخاصة أيام بداية العام الدراسي أو الاستعداد لأي حفل ثقافي حيث يتطلب الاستعداد خاصة وهذه المدرسة كانت تحظى بزيارات متعددة لشخصيات متنوعة من وزارة المعارف سابقاً وبعض أمراء المناطق وغيرهم، لقد كانت أيامها من أحلى أيام العمر وتركت في نفوسنا حباً ووداً لها لن يزول أبداً وخلفت من الثمار اليانعات ما لا ينسى على مر الأيام والتي هي شاهد حي على ما قدمته للتعليم من خدمات. أمين عام دارة الملك عبدالعزيز السابق