لا أدري كيف جمعت اتيل عدنان بين الشرق والغرب وكيف صالحت بينهما وكيف تشابكت جذورها بين جهات الأرض وخرائط الأمكنة ولغات الأمم وحضارات الشعوب، غير أنه بين أوراقها ومداد كلماتها وكتبها ورحلات ألوانها تتبدى أشياء من ملكات الطبيعة وظواهر الحياة ومفارقاتها ومصادفاتها وأقدارها المدهشة. فحياتها مثل منام بين حل وترحال وإقامة وسفر وبحر وجبال وأرض وسماء ومدن وأنهارٍ وجسور للحوار والتواصل ومرافئ بكل ما تولده من شعور بالعابر. وهي قامةٌ من قامات الفن والشعر والنقد والأدب، وظاهرة من ظواهر التنوع الثقافي والفكري ونموذجٌ فريد للقاء الحضارات وامتزاج اللغات. ومعرضها الاستعادي في غاليري صفير زملر الكرنتينا - بيروت حتى 26 تشرين الاول - اكتوبر يعكس تنوع تلك الشخصية الاستثنائية، التي يتشابك في روحها خيال الشعراء وذائقة الرسامين كما تحمل في عروقها نسغ الثقافات المتوسطية والأميركية والأوروبية. تتصدر المعرض مجموعة كبيرة من اللوحات ذات الأحجام الصغيرة التي تصور الطبيعة كما لو أنها قصائد ملوّنة كتبتها بالريشة ولطخات الألوان في مناخات تجريدية لا تلبث أن تتراءى في سجادياتها... فضلاً عن الدفاتر المطوية على الطريقة اليابانية، يضم المعرض شريطاً سينمائياً تسجيلياً عنوانه"إيتل عدنان: كلمات في المنفى"، للمخرجة اليونانية فوفولا سكورا، وأفلام سوبر 8 صوّرتها في فترات مبكرة من مسيرتها، وعدداً من إصداراتها الشعرية والفنية والروائية. تعيش ايتل عدنان متنقلة بين باريس وكاليفورنيا وبيروت، فالسفر ضفة من حياتها والضفة الأخرى هي العيش في أحضان ثقافات متنوعة ساهمت في إغناء تجربتها الشعرية والفنية على السواء. هل الشعر موطن بديل أم اللوحة؟ هل السفر في مساحات اللون هو الأساس، أم السفر في حروف الكلمات ومتون الأوراق وهوامشها هو الحقيقة؟ يحار المرء هل ينظر إلى كتب ايتل عدنان المتموضعة أمامه وهي مفتوحة مثل"أوركاديون"، أم يسرّح النظر في بقاع تتلاقى وتتفارق في مواعيد أكيدة مع الفرح اللوني الآتي من الطبيعة؟ هكذا تضع ايتل عدنان، الناظر إلى مسارها الفني بين حيرتين، أو تجربتين مختلفتين. حروفها المنثورة على الورق من جهة وألوانها المستلقية على القماش. في محمولاتها من الكتب المطوية على الطريقة اليابانية، ثمة شيء يتعلق بشكل المسند التصويري Support ألا وهو الكتاب الفني الذي لا يُعلق على الجدار، بل يمكن المرء أن يحمله ويتأبطه وينقله ويطويه ويبسطه ويغلقه ويقلبه. ولا عجب في أن تتأثر ايتل عدنان بهذا النوع من فنون الشرق الأقصى المتميزة بالمرونة والطواعية والروحانية، غير أنها تحيل فعل القراءة إلى شعرية بصرية ذات مكونات طفولية بسيطة ومرحة وزاهية، حتى لتبدو كتاباتها ومصوراتها بمثابة مخطوطات معاصرة أو قطع من أرشيف يليق بالمتاحف. ولئن كانت الكتابة رسماً قبل كل شيء، فهي ايضاً شكل من أشكال الوجود. ذلك ما يجعلنا نحلم بالأسرار التي أودعتها ايتل عدنان رسومها على الورق. فالكلمات مرسومة بحب وبهاجس يتعلق بأيادي النسّاخ وأعمال التدوين، لكنها تنطوي على الكثير من الحميمية والذاتية. إذ لطالما شعرت الفنانة بأهمية خط اليد في التدوين، لا سيما مع طغيان استخدام الكومبيوتر الذي بات يهدد فعل الكتابة بالانقراض. لذلك عكفت على مزاولة تجربة الكتابة بالعربية الفصحى التي تجهلها إلى حد ما، كي تقيم علاقة جديدة مع الهامش الأيمن للغة الضاد، بدلاً من الهامش الأيسر في اللغات الأخرى التي تتقنها. فقد كتبت ايتل قصائد من دواوين الشعراء العرب المحدثين الذين عرفتهم وأحبتهم، وفيها بعثت حقولاً وأضاءت شموساً من أجنحة مخيلتها. رسمت الكلمات حرفاً حرفاً كطفل يقوم بتهجئة الكلمة على دفعات، تنزل يدها عن السطر أحياناً، ثم تعود إليه بدفق يعلو مثل نوتات الموسيقى. خطها عريض وكلماتها مثل فراشات ملونة، وبين سطورها، جداول وأوتاد للذكرى ومياه رقراقة من الأزرق واللازورد. هكذا تبدو قوافل الشعر كأنها أمواج أفقية من الألوان المائية، تلاحق بعضها بعضاً تحت سماء ساطعة. ايتل عدنان صديقة الطبيعة، هي روح هائمة في اللون، تربطها تشكيلياً علاقة متينة ومزمنة بطبيعة كاليفورنيا، التي ما إن تغادرها حتى تعود إليها بقوة وشوق كبيرين، ناهيك عن تأملاتها لجبل تامالبايس الذي رسمته مراراً وتكراراً على مدى سنوات طويلة. إن مناظرها التجريدية لا تلغي الواقع كلياً، بل تبسّطه وتلمّح إليه، كي تقطفه شكلاً وبقعاً، بتصرف كبير. لذا تبدو مساحاتها ساطعة مشيّدة بإحساس العين وعاطفة القلب وطاقات اللون. إنها مناظر مقروءة غالباً من بعدين: أرضيّ وفضائيّ، ومؤلفة من أقواس ومستقيمات، تتقاطع في ما بينها في هندسة شبه خفية، هي هندسة الطبيعة نفسها في مربع الرؤية. وإذا كانت أعمالها تذكّرنا عَرَضاً بفن نيقولا دو ستايل، إلا أن هذا النوع من التجريد البقعي ظاهراً والهندسي عميقاً، كان خيار الفنانة منذ أواخر ستينات القرن العشرين، وهي ما زالت تمحص فيه، وتختبره. كأن الفنانة تدرس الطبيعة بعمق، تصادقها، تتحاور معها وتتعلم منها الكثير، وفق تحديات تظهر عند أول لطخة لون تضعها بالسكين على سطح اللوحة. نتبيّن مدى حضور فئات الألوان الترابية والشقراء وتأثير مجاورتها للأخضر، ومن ثم التوازن الدقيق بين الحار والبارد والفاتح والغامق، والألوان المذابة والأخرى الصافية. ثمة نور كثير يشع من تلك المناظر. هل يمكن أن تكون طبيعة كاليفورنيا مضيئة إلى هذا الحد أم أن الشغف الكبير الذي تكنه الرسامة لمكان إقامتها هو الذي يضفي على ملوناتها كل هذه الاشراقات؟ الواقع ان ايتل عدنان ترسم الطبيعة بشغف كبير لأنها تجد فيها نفسها. فلسطين بالصور بيروت -"الحياة"- عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، صدر الكتاب المصور،"من الأرض المقدسة إلى فلسطين"، 285 صفحة، ويضم صوراً وتعليقات عليها، بالإنكليزية والفرنسية، مع مقدمة وتعريف بالمشاركين من أصحاب الصور وجامعيها ومحرري الكتاب. والكتاب ليس مجرد دليل مصور، فهو يعرض صوراً لفلسطين في القرن التاسع عشر مع صور حديثة، ما قبل النكبة وما بعدها. يقول ستيفان هوسل في المقدمة، إن المصورين الذين قدموا إلى فلسطين في القرن التاسع عشر كانوا متحمسين لإثارة الحكاية الغربية عن الشرق والأبعاد الدينية، وقد أذهلتهم عندما عاينوا الأمر مباشرة آثار الحضارات المتعاقبة. ويشرح وسيم عبدالله في التمهيد أنه من هذا المنطلق صور الفرنسي فيليكس بونفيس 1831 ? 1885 فلسطين، وهو كان يعرف الشرق، إذ كانت عائلته استقرت في لبنان وأسس فيه استديو تصوير. ولكن، لم يكن بونفيس مجرد مصور فوتوغرافي يصور الأماكن التي فتنته بجمالها وبما تحمل من تاريخ، فقد كان رحّالة يتنقل في أرجاء الشرق الأوسط، وينقل ما يشاهده خلال 30 سنة من عمله، في صور بالأسود والأبيض، لكنه كان ينقل أساساً الأبعاد الإنسانية للأمكنة وطبيعة الحياة التي كان يعيشها سكان فلسطين. الصور القديمة، كما الحديثة، تجول بالقارئ ? المشاهد، في أرجاء القدس العتيقة وخارج أسوار المدينة المقدسة وفي جنوبفلسطين والشريط الساحلي وشمال فلسطين.