تقع بوسانغووا على مسافة 305 كيلومترات إلى الشمال من بانغي، عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى، وهي اليوم في قلب المنازعات بين الغالبية المسيحية والأقلية المسلمة. ويفصل بين الجماعتين أو القومين خط غير مرئي، وخطوط الاقتتال بينهما تكاد تكون راجحة. وسبق أن سُفح الدم على جهتي الخط الفاصل، والجماعتان لا تكلم كلٌّ منهما الأخرى، ولا تتزاوران، وتتبادلان الاتهامات في كل شأن أو مصيبة. في بوسانغووا وفي دائرة تحيط بها، وقرب هذه الدائرة لا ينام أحد من الأهالي تقريباً في منزله، والمنازل كلها هجرها أصحابها. ومباني الكنيسة والمدرسة الحربية لا يصلي ولا يدرس فيها أحد، فهي تُستعمل لإيواء مهجرين ونازحين. وبابا الحانوت الصغير"باسيفيك السلام"أُغلقا إلى موعد غير محدد. "السبب في هذا كله هو مشكلات سوء التفاهم، فنحن اليوم نعيش على شاكلة الكلاب المصابة بداء كَلَب العداء"، يقول ماتوران، الخارج لتوه من الغابة حيث لجأ مع عائلته ويعيش في عيش الكفاف. ويعاني الأباتي فريديريك تونفيو في كاتدرائية سان انطوان البادواني والمباني المتصلة بها الأمَرّين في سبيل إغاثة 36 ألفاً من رعيته تحصي منظمات الإغاثة 25 ألفاً لجأوا إلى المكان."الكوليرا تحوم حول الملجأ، وأنا أنام مع أولادي في سريري، والأمهات ينمن على حدة"، يُسِرّ همساً مدبر الكاتدرائية العام. ويرمي الرجل في ثوبه الأسمر الفاتح المسؤولية على"سيليكا""الحلف"في لغة سانغو الوطنية، وهي حركة متمردين معظمهم مسلمون خلعوا في 24 آذار مارس الماضي الرئيس فرنسوا بوزيزي، وأمر مذذاك الرئيس ميشيل جوتوديا بحل حركتهم."عندما تحصل مشكلة أذهب إلى قائد المنطقة، الكولونيل صالح، لكنه لا يصارحني بالحقيقة ويعدني بمعالجة الشكوى من غير نتيجة، وتستمر الاعتداءات في الليل، وتُرتكب جرائم، وتقطَّع خطوط الهاتف بين بوسانغووا وبانغي فلا تبلغ العاصمة شكوانا، فهم يحسبون كل سكان المنطقة انصاراً مستميتين للرئيس بوزيزي، لأنه منها". وتكشف المناقشة اتساع الهوة بين الجماعتين الدينيتين:"المساكنة عسيرة اليوم، فالسلاح في أيدي إخوتنا المسلمين يُشْعر المسيحيين بالتهديد، وأنا لا أخفي الحقيقة على إمام المسجد"، يقول الأباتي تحت صورة بينيديكتوس السادس عشر. لكن أخبار وروايات الأهالي الجالسين على الأرض الموحلة والذين أصابهم العنف مباشرة، أكثر حدة وأقل تحفظاً من رواية الأباتي، فبعضهم لا يتردد في التنديد ب"خُلُق"مضطهديهم"المنحرف"."لم نعد نستطيع التعاون معاً، فكلهم متواطئون مع سيليكا"، تقول جولييت، وهي مزارعة قُتل صهرها قبل 5 أيام بينما كان يتوجه إلى حقله. ومنذ اندلاع العنف في القرى المجاورة في 7 أيلول سبتمبر، أحصى أحد مسؤولي الكنيسة في بوسانغُووا 61 ضحية، وهذا الرقم أقل من ال100 ضحية التي أحصاها الناطق باسم الرئاسة، عن سامبليس كوديفيه. وأعلن الأمين العام لطائفة المسلمين سقوط 369 قتيلاً من المسلمين، ويرتفع الرقم إلى 630 ضحية في إحصاء إمام جامع بوسانغووا، فمن عساه يقول الحقيقة؟ الجواب مستحيل. محمد إبراهيم لاجئ إلى مدرسة الحرية مع أمه وشقيقته الصغيرة، وهو يربي الماشية، عمره 17 سنة ومن قوم البيل. يروي دامعاً ما حل بقريته على بعد 45 كلم من المدرسة، فيقول إن شباناً ألّفوا جماعة دفاع ذاتي، وهاجموا قبل أسبوعين جميع المسلمين من غير تمييز، وسقط أبوه وشقيقه قتيلين، ونقله إلى الملجأ مجندون في"سيليكا". أما رواية حسين عبدولاي فأكثر تفصيلاً، ويروي هذا المسؤول في قرية كوروم- بوكو على بعد 50 كلم جنوباً وأهلها مسلمون، أن مهاجمين يعاونهم العمدة وفلاحون قتلوا 11 شخصاً ونهبوا الممتلكات وأحرقوا 97 منزلاً في 11 ايلول الساعة الواحدة و10 دقائق بعد الظهر. والى اليوم، لا يزال 17 من أقارب حسين عبدولاي في عداد المفقودين. ويقول زكريا ماكايل، إمام زيريه، وهي قرية تقع إلى الغرب، إن 57 مسلماً، بينهم شيخ القرية وابنه البالغ 8 أعوام، قتلوا بأيدي جيرانهم بدم بارد. لكن العالم الديني يرفض وصف الحوادث بالحرب الطائفية على نحو ما ينفي ارتكاب المسلمين جريمة من أي صنف كان. وزميله في إمامة مسجد بوسانغووا، الشيخ إسماعيل نفّي، يردد ما يقوله الشيخ زكريا ماكايل ويغفل ما حل بالمسيحيين على أيدي مسلحي"سيليكا"أسياد المدينة:"في الكنيسة كثيرون من قوم أنتيبالاكا لجأوا مع أولادهم. وإذا وقعوا على مسلم وحيد قتلوه، وعليهم أن يعودوا إلى بلادهم لأنهم إذا ظلوا هناك فهذا يعني شيئاً". ما هو هذا الشيء؟ الشيخ يتجنب الجواب. كلتا الجماعتين اليوم تصم الأذن عن شكوى الأخرى وتغض النظر عن تعاستها وتسكت عن عذابها. والمكان الوحيد الذي يلتقي فيه المسيحيُّ المسلمَ والمسلمُ المسيحيَّ هو المستشفى المركزي، الذي تديره جمعية أطباء بلا حدود. هناك، تنام جيرترود 16 عاماً، نوماً عميقاً، وقربها أمها فيديلين، ترفع الأم الغطاء عن الصبية النائمة، وعن ضمادة كبيرة على الجزء الأعلى من بطنها، وتروي:"كنا في البيت بحي بورّو في 17 أيلول نحو الساعة الرابعة فجراً، حين سمعت لعلعة الرصاص، بعدها جاء مسلحو سيليكا وطرقوا الأبواب وهاجموا المدنيين، وكان بعضهم من قوم البيل ويحملون المناجل، وآخرون يحملون بنادق، اتهمونا بأننا ننتمي إلى فرق الدفاع الذاتي، ابني أولريش 15 سنة قتلوه وجرحوا ابنتي". وعلى فراش قريب يرقد آمادو يوبا، سائق دراجة نارية ? تكسي مسلم. ويقسم الرجل أنه لم تشغله السياسة في يوم من الأيام، وهو يكافح ليشفى من جراح رصاصتين أطلقتهما عليه فرقة من ميليشيا الدفاع الذاتي. المنازعات الطائفية لم تبصر النور في جمهورية أفريقيا الوسطى في الأسابيع الأخيرة، لكن هجوم"سيليكا"في كانون الأول ديسمبر 2012 أحيا الخلافات والثارات القديمة بين مربي الماشية المسلمين والمزارعين المسيحيين. ولم يتردد نظام الرئيس السابق فرنسوا بوزيزي المتهافت، في صب الزيت على النار، ودعا الأهالي إلى مقاومة المهاجمين الذين صوَّرهم بوصفهم عصابات"جهادية"وإرهابية تأتمر بأمر"القاعدة". وغداة استيلائه على الحكم بقوة السلاح في 24 آذار مارس، عمد ميشيل دجوتوديا، وهو أول رئيس مسلم للبلاد، إلى طمأنة الأهالي والإخلاد إلى الهدوء، فزار الكنائس، وكذَّب ما نُسب إلى المسلمين من رغبة في أسلمة أفريقيا الوسطى، وتعهد المحافظة على علمانية الجمهورية. لكن ما ترتكبه قواته ضد الأهالي والممتلكات يؤتي مفعولاً يخالف قصد دجوتوديا المعلن. وفي اثناء غارتهم على بانغي، نهب مسلحو"سيليكا"الكنائس، واعتدوا على الرهبان، وتجنبوا الإضرار بالمساجد والتجار المسلمين. وعلى رغم أن العدوان على الناس والممتلكات أقرب إلى أعمال النهب منه إلى الثأر لأعوام التهميش التي يشكو منها المسلمون، كان وقْعُ العدوان فظيعاً. ويقول مواطنون كثر من أفريقيا الوسطى إنهم باتوا غرباء في وطنهم، ويخشون تهديد المرتزقة الآتين من تشاد والسودان. وتقدِّر مصادر ديبلوماسية أن 80 في المئة من مقاتلي"سيليكا"جاؤوا من هذين البلدين. والواقع أن انفجار العنف في منطقة بوسانغووا كان متوقعاً، فالرئيس السابق، فرنسوا بوزيزي، كان لا يثق بقواته، ويخشى انقلابها عليه، وعلى سلطته، فساعد المزارعين وأهل القرى على إنشاء ميليشيات دفاع ذاتي. وأكملت انتهاكات"سيليكا"إضعاف هيئات الدولة. وجدد الأنتيبالاكا حركة تمردهم، وهم يحاصرون مدينة بوسانغووا من الجهات كلها، فهاجموا في 7 أيلول قرية زيري، مسلحين ببنادق قبائل البر والمناجل والسكاكين، وتعمّدوا قتل المسلمين المدنيين وتجنبوا مهاجمة مسلحي"سيليكا". وفي بوكا، هاجمت الميليشيا الأهالي في 19 أيلول فجراً. وقُتل خلال أقل من ساعة أكثر من 40 مسلماً، وأُحرِق أكثر من 250 منزلاً. وثأرُ مسلحي منظمة"سيليكا"السابقة، ومعها شبان المدن، كان شديد القسوة، فقتلوا 30 مسيحياً وأحرقوا 300 بيت. واتسعت أعمال العنف في الأسبوع التالي، وتعاظمت على نحو غير متوقع، فهاجمت الميليشيات بوسانغووا من محاور كثيرة، وصمدت في وجه أسياد المدينة الجدد يوماً كاملاً. ويقر صالح زبَدي، قائد المنطقة، بخسارته 46 من رجاله في الموقعة، لكنه يكذِّب كل ما يُنسب إلى"سيليكا"من جرائم. ويتهم الجنرال يحي عيسى، على رأس قوات"سيليكا"التي أمست الجيش النظامي الجديد، الميليشيا المسيحية بارتكاب هجمات قبلية تتوسل بها إلى تأجيج حرب أهلية بين الأقوام والطوائف. * مراسل، عن"لوموند"الفرنسية ملحق"جيوبوليتيك، 3/10/2013، إعداد م. ن.