"المَصَحّة النفسية في اليمن تنتمي إلى القرون الوسطى". هذا ما قاله عمر عبدالعزيز، وهو مريض نفسي يصفه معالجوه ب"الفيلسوف". ومنذ 20 عاماً، تنقّل عبدالعزيز بين مستشفيات صنعاء وتعز، قبل أن يستقر به المطاف في"مستشفى الأمراض النفسية والعصبية"في عدن. وجاء نقله إلى عدن بسبب توقّف مستشفاها عن تقييد المرضى بتكبيل أرجلهم بسلاسل حديد. تعبّر قصة عبدالعزيز عن واقع العلاج النفسي في هذا البلد، وهو الأكثر فقراً في منطقة الشرق الأوسط. وقبل 50 عاماً، رفع اليمن شعار القضاء على الفقر والجهل والمرض. ويمثل الطب النفسي الجانب الأكثر قتامة في مشهد القطاع الصحي والممارسة العلاجية في اليمن. نظرة المجتمع وتُبيّن أوضاع المستشفيات النفسية التي تمكنت"الحياة"من رصدها، أن معظم الأخطاء الجسيمة التي تصاحب ممارسات العلاج النفسي لا تعود إلى مجرد حداثة هذا المجال وشحّ الإمكانات، كما يزعم المسؤولون، بل تتعداها إلى أسباب تتصل بكفاءة المشتغلين في هذا القطاع وأساليب عملهم، إضافة إلى تأثير نظرة المجتمع إلى المرض النفسي في عمل المؤسسات الطبية التي تعنى به. وثمة بين المعالجين من ينطلق من معتقدات دينية، مثل الكفر والإيمان، لتفسير المرض النفسي. ولا يستطيع المرء أن يغفل وجود"اضطرابات"شخصية مثل الصراخ والتوتر الحركي، عند بعض المعالجين النفسيين ومعاونيهم! والأرجح أن تضاؤل فرص المريض في الحصول على الشفاء، تُساهِم فيها اختلالات مهنية أيضاً. وتوصف المَصَحّة في اليمن بأنها مؤسسة للعقاب. ومثلاً، يقع أحد مستشفيات الأمراض النفسية في صنعاء ضمن مبنى السجن المركزي. وتنتشر في المستشفيات أساليب تقييد المرضى ووضعهم في زنازين أو غرف مظلمة. ووفق البروفسور مصطفى العبسي، وهو أستاذ في الطب السلوكي والعلوم العصبية في كلية الطب بجامعة مينيسوتا الأميركية، فإن هذه"الممارسات الجاهلة وغير الإنسانية، تُضاعف من الظُلم المجتمعي الواقع على المريض النفسي - العقلي". وفي حديث مع"الحياة"، شدّد العبسي على ضرورة"التعامل مع الأمراض العقلية والنفسية باعتبارها نتاج اضطراب بيولوجي وعصبي، يمكن علاجه على غرار الحال مع الأمراض العضوية الصرفة، كالسكري وضغط الدم، وهي ليست وصمة عار". وأشارت تقديرات غير رسمية حديثة إلى وجود ما يزيد على 1.5 مليون مريض عصبي، بينهم 500 ألف من المُصابين بأمراض ذهانية Psychotic Disorders، وهي نوع شديد من الاضطرابات النفسية. وفي هذا الصدد، أشار الدكتور عادل ملهي، وهو مدير مستشفى الأمراض النفسيّة والعصبيّة في مدينة تعز، إلى أن معظم الحالات تصل إلى المستشفى بعد استفحالها. وأوضح أن مستشفى تعز من المستشفيات الحكومية التي ما زالت تعمل بأسلوب تقييد المرضى، مشيراً إلى أن الأُسرة تأتي بالمريض إلى المَصَحّة كي تتخلّص من عبئه، ولا ترغب في الانخراط بعلاجه. ميوعة قاسية بصورة عامة، يساهم ضعف الثقافة الإنسانية لدى المشتغلين بالصحة النفسية، ومحدودية تأهيلهم، وشح المصادر الموضوعة بتصرّفهم، في صنع جو من"الميوعة"في ممارسة الطب النفسي، بمعنى الافتقار إلى الدقة في نمط التشخيص والعلاج، ما ينعكس بصورة قاسية على المرضى. وثمة عوامل أخرى تساهم في هذه الصورة، منها ندرة الأطباء المختصّين في الطب النفسي، وازدواج عمل الطبيب المختصّ بين المستشفى والعيادة الخاصة. وسُجّلت حالات انتحار لنزلاء في مستشفيات حكومية. وثمة معلومات يصعب التحقّق منها، عن حدوث حالات وفاة لمرضى نفسيين وعصبيين بأثر من تلقيهم علاجات غير دقيقة داخل المستشفيات. ومثلاً، شكّكت أُسرة مريض نفسي قضى أخيراً في عدن، في الرواية التي قدّمتها إدارة المستشفى عن سبب وفاته. وفي السياق عينه، هناك نقاش عن العلاج بالعقاقير وصدمات الكهرباء، في المستشفيات الحكومية والخاصة. ووفق أحاديث متفرّقة لبعض المختصين في اليمن، هناك خطورة أن يؤدي العلاج بالعقاقير القوية وصدمات الكهرباء، من دون الارتكاز على تشخيص دقيق، إلى مضاعفات خطيرة. وأعرب بعض هؤلاء عن قناعته بأن غياب الدقّة في استعمال هذه الأساليب العلاجية، يفضي في أحسن الأحوال إلى نتائج جزئية في كبح تمدّد المرض، أو ربما إعادة صوغ بعض مظاهره، من دون أن يضع المريض على سكّة الشفاء أو السيطرة على المرض النفسي طبيّاً. ولا يتردّد بعض المواطنين في القول إن معظم المرضى الذين تمكنوا من العودة إلى حياتهم الطبيعية، تلقّوا علاجاً خارج البلاد. ومثلاً، لم تؤدِ العقاقير التي يتناولها توفيق منذ سنوات إلى تحسّن كبير في حاله، باستثناء همود في حركة الجسد وصعوبة في الكلام. وواضح أن الاستخدام غير الدقيق للأدوية النفسية، يضيف للمريض مشكلة أخرى تتمثل في ظهور أعراض تتصل بالآثار الجانبية لتلك الأدوية. ومع غياب الرقابة على المستشفيات أو عدم كفاءتها، باتت صحة المريض النفسي محكومة بالحظ. وأسرّ أحد الأطباء بأنه على قناعة بأن بعض المرضى عولجوا بطريقة غير دقيقة بالأدوية وصدمات الكهرباء، فيما كان من الممكن شفاؤهم باتباع طرق أخرى مثل العلاج المعرفي - السلوكي Cognitive - Behavioral Therapy. خنق وجَلْد على رغم تفاوت الأداء بين المستشفيات الحكومية والخاصة، بل بين مدينة وأخرى، تبقى عدم دقّة العلاج أو عدم نجاعته، قاسماً مشتركاً بينها جميعها. وكذلك تُقدّم خدمة العلاج النفسي وفقاً لقدرة المريض المالية. وهناك غرف خاصة تتوافر فيها النظافة والغذاء الجيد ووسائل التسلية، في مقابل عنابر تكتظّ بالمرضى من كل الأعمار، وتنبعث منها الروائح الكريهة. وأحياناً، لا يقبل المريض إلا بعد دفع ضمان مالي. ومع ارتفاع أسعار الأدوية وعدم توافر بعضها، تتضاعف مشكلة الفقراء، بل يتوقّف بعضهم عن الاستمرار في العلاج بسبب عجزه عن شراء الدواء. وقالت رانيا التي خضع قريب لها لتجربة فاشلة في العلاج، إن"المَصَحّة تصنع الجنون". وأضافت:"إذا كانت الأخطاء الطبيّة منتشرة لدرجة أن عملية جراحية بسيطة مثل استئصال اللوزتين، تتسبب في وفاة بعض المرضى، فكيف يكون الحال مع الطب النفسي الذي لا يقدر الناس على اكتشاف أخطائه؟". وقلما حضر التقويم النفسي Psychiatric Evaluation في القضايا التي تنظر أمام المحاكم، ولا عند القبول في بعض المهن. وعلى رغم ارتفاع نسبة المرضى العسكريين ممن شاركوا في حروب داخلية، فإن موضوع علاقة الحروب بالأمراض النفسية لم يبحث حتى الآن على نطاق واسع في اليمن. ويعمد بعض مسؤولي المستشفيا إلى تقديم تفسيرات تبسيطية مثل الزعم بأن هؤلاء يدّعون المرض للحصول على تقارير تعفيهم من الخدمة. والأرجح أن تدهور سمعة مؤسسات العلاج النفسي من شأنه أيضاً أن يكرّس نظرة سلبية إلى المرضى النفسيين، خصوصاً في ضوء انتشار الأمية واستمرار الاعتقادات الخاطئة عن المرض النفسي - العقلي. وذكر الدكتور ملهي أن بعض المرضى الذين يؤتى بهم إلى المَصَحّة تظهر على أعناقهم آثار خنق نتيجة ممارسات المشعوذين الذين يعذّبون مرضاهم بالخنق والجَلْد بدعوى"إخراج الروح الشريرة". وفي نبرة يائسة، أفادت باحثة نفسية طلبت عدم الكشف عن هويتها، أنها لم تعد ترى فارقاً كبيراً بين المشعوذين وممارسات الطب النفسي في اليمن، نظراً إلى استمرار الأطباء في ممارسة تكبيل المرضى، إضافة إلى معاناة المرضى من ممارسات علاجية مغلوطة. وتقدم حال عمر عبدالعزيز نموذجاً عن الأخطاء التي تصاحب ممارسات العلاج النفسي يمنياً. فعلى رغم 20 عاماً من العلاج، ما زال بعيداً من الشفاء. وبيأس، يذكر بعض أصدقائه حاله قبل المرض، وكان معروفاً بقوة المنطق والاستدلال، وصارت بارزة في حاله تلك الأعراض الذُهانية كعدم الاهتمام بالمظهر والانطواء. وطرح بعض هؤلاء سؤالاً مُرّاً عن جدوى العلاج النفسي في اليمن، حين تكون محصلته فشلاً في إخراج المريض من براثن الاضطراب النفسي وأعراضه ووصمته.