الإنهيار العصبي مرض نفسي قد ينقضّ على أي كان في أي لحظة، بغض النظر عن الجنس والعمر والهوية. تكفي صدمة نفسية أو فترة إرهاق طويلة، تتبعها لحظة ضعف واستسلام لتنهار دفاعات الجسم الذهنية. المرض عرفت أخطاره منذ مئات الأعوام، والعرب كانوا من رواد علاجه النفسي لآلاف السنين خلت بحيث بات علماؤهم قدوة للنهضة الفكرية الغربية في هذا الشأن. أما اليوم فالمجتمع العربي قاتل هذا العلاج بعدما ربطه بالشائعات والشعوذات والتدجيل، وكلها صفات وضعت المرض النفسي في خانة الخلل الذهني، وجعلالعلاج من باب المستحيلات وصار التوجه إلى الطبيب الإختصاصي ضرباً من ضروب... الجنون. العرب روّاد العلاج منذ القدم، كتب الأطباء والعلماء العرب كتباً عدة عن موضوع الطب النفسي، ولم يصل منها إلا القليل مع العلم أن المراجع تثبت أن أول من عالج الصحة النفسية هو أبو زيد بن سهل الملخي العام 322 ه- 922 م في كتابه "مصالح الأبدان والأنفس". كما برز في تاريخ الطب النفسي العربي الإسلامي نجيب الدين أبو حامد السمرقندي والرازي واسحاق بن عمران الذين وصفوا الكثير من الإضطرابات العقلية وصفاً دقيقاً ولا سيما تسعة أنواع منها تشمل 30 حالة. وفيما انفصلت هذه الأمراض عن الطب البحت أحياناً كثيرة لتدخل ميدان الشعوذة والتدجيل في غالبية الأحيان، لجأ هؤلاء الأطباء والعلماء العرب إلى طرق مبتكرة لمعالجة المرضى النفسيين عبر تفهم حال المريض وكسب ثقته ومحاولة التأثير فيه نفسياً. فتولى إبن سينا مثلاً علاج مريض نفسي بزيادة وزنه كي يتمكن جسمه النحيل من مقاومة الإنفعالات النفسية. وباتت تعاليم العلماء العرب والفلاسفة قدوة للنهضة الفكرية في الغرب فيما اليوم، يعجز الطب النفسي العربي عن تقديم أي مساهمة علمية تصل إلى مستوى السبق العلمي في هذا الميدان. وفي مقابل ذلك التقدم العلمي، برزت شائعات كثيرة حول المرض النفسي، بقيت هي ذاتها مهما تنوعت البلدان العربية وعلا مستوى ثقافة مجتمعها، ربما لأن المرض لا يرتبط مباشرة بشيء ملموس كالجسم أو أي من أعضائه، وربما لأنه يجسّد قوة مجهولة تتملّك الذهن وتجعل الجسم يخضع لها بطريقة أو أخرى. فالكلام يبدأ دوماً بإمكان الشفاء من المرض من دون دواء، مروراً بأن العلاج النفسي بدواء أو من دونه يلحق الضرر بالمريض ويثبّت مرضه، وصولاً إلى أن زوّار العيادة النفسية هم كلهم من المجانين... "لأن المرض النفسي ناجم عن الكتابة والسحر ووليد ضعف الشخصية". فالعائلة التي يصاب أحد أفرادها بمرض نفسي تسعى إلى "إخفاء" المريض خوفاً من "الفضيحة". وتتردد في التوجه إلى الطبيب منعاً لانكشاف الأمر، كما تنتقد المريض بكثافة متهمة إياه بضعف الإرادة، ثم تخفي بعض العوارض عن الطبيب "لأن المريض ليس بمجنون"، محاولةً أخيراً إنهاء العلاج في أقصى سرعة ممكنة. طبيب لكل 400 ألف شخص وينعكس الخوف من المرض النفسي ندرة في الأطباء المتخصصين في العالم العربي ربماً خوفاً من أن يظّلوا عاطلين عن العمل. فالوضع بات بعيداً عن "المجد" العربي السابق الذي كان تتوّج العام 1945 بانطلاق العدد الأول لمجلة عربية متخصصة في العلوم النفسية، أثارت يومها صدى إيجابياً كبيراً. وأورد إحصاء عربي أجري في أواخر التسعينات أن عدد الأطباء النفسيين العرب قد لا يتجاوز ال500 طبيب في مجمل الدول العربية، أي بمعدل طبيب واحد لكل 400 ألف شخص فيما أن الأسرّة المتوافرة في المستشفيات والمصحّات لا تفي بأكثر من 5 في المئة من الحاجات الفعلية للمجتمع العربي عموماً. فلبنان مثلاً كان يقدم في تلك الفترة طبيباً نفسياً واحداً لكل 150 ألف نسمة فيما سورية تقدم طبيباً لكل 210 آلاف نسمة. كما سجّل المؤتمر الدولي الثامن للطب النفسي العام 2002 إشتراك 30 طبيباً عربياً من أصل 7 آلاف طبيب من كل العالم، ثم انخفضت هذه النسبة المتدنية في المؤتمر التالي. ولم يتمكن إتحاد الأطباء النفسيين العرب من جمع أكثر من 120 طبيباً من أفراده. أما انعدام التعاون بين هؤلاء الأطباء فيجعل الإختصاص يغيب كلياً عن بعض الكليات العربية، على رغم بعض الجهود الفردية التي عملت "عكس التيار" في المجتمعات العربية لإلحاقها بالعصرنة المطلوبة في هذا الشأن، مما رسخ الحضور العربي دولياً، أكان عبر الطبيب النفسي أحمد جمال أبو العزايم الذي ترأس الاتحاد العالمي للصحة النفسية، أم عبر الدكتورة موزة عبدالله المالكي التي أسست في الدوحةقطر أول مركز لعلاج الأطفال باللعب في الخليج العربي، أم غيرهما كثر سعوا إلى تفعيل دور الطبيب النفسي والتعاون بين "كل الزملاء العرب". وعلى رغم السلبية الظاهرة في التعامل مع الوضع النفسي العربي، أكان على صعيد المرضى أنفسهم أم المعالجين والأطباء الذين كانوا اتفقوا طويلاً على الإختلاف، فإن السنوات العشر الأخيرة شهدت نقلة نوعية على المستوى الطبي الإختصاصي تمثلت في إصدار الديوان الأميري في الكويت، سلسلة تشخيص الإضطرابات النفسية من 11 جزءاً، وهي تشكل خطوة عملاقة نظراً إلى أنها وحّدت لغة العلاج العربية في ما يتعلق بتصنيف المرض وتشخيصه وتحديد العلاج له". والملفت وجود "عيادة الصحة النفسية" العربية على الإنترنت، مما يضمن "عدم وجود شخص يقابل المريض وجهاً لوجه مزيلاً في ذلك الأنواع المختلفة من المقاومات النفسية والخجل". أما المريض، فيبقى اسمه وهويته مستورين، أكان على الإنترنت أم لا، مع العلم أنه يميل إلى رفض العلاج الدوائي إنطلاقاً من ربطه بالخلفية الدينية بين تأثير هذه الأدوية على الوعي وبين تأثير المحرمات كحول ، مخدرات وغيرها. ويبقى علاجه في مهبّ الريح أحياناً كثيرة في ظل انعدام شبه تام للتعاون الإختصاصي العربي وتدنّي كفاية بعض الأطباء المتخصصين وغزو "المهنة" من قبل مشعوذين، ناهيك لغياب هذا التخصص عن غالبية كليات الطب والتمريض العربية التي بدأت أخيراً تعي الثغرات الموجودة.