«ذاك هو الشاعر رمزي الحكيمي» يقول فاروق مشيراً بيده الى شاب متسخ الثياب يجلس في ركن السوق في حي حوض الاشراف في مدينة تعز. عدد قليل جداً من مرتادي السوق يعرفون من يكون رمزي الحكيمي أما الغالبية فتعتبره مجنوناً، ولا يزال الحديث عن المرضى النفسيين، يأتي عابراً. أقرب إلى الحديث عن شيء يستدعي الفرجة أكثر منه حديثاً عن انسان مريض يتطلب الشعور بالمسؤولية الانسانية والاجتماعية. ومع شيوع النظرة السلبية التي تعتبر كل مريض نفسي يهيم على وجهه في الشوارع مخبراً للحكومة، اختلط الحابل بالنابل في ما يخص تمييز المريض النفسي عن سواه. ويقوم أطفال برشق مَن «وُصم» بالمريض نفسي أو من يسمونه «مجنوناً»، ويكون الاغتصاب نصيب النساء والاطفال ممن يعانون من الحال نفسها. التعامل القاصر أو السلبي مع المرضى النفسيين لا ينحصر بالآخرين، ويمتد إلى داخل أسرة المريض نفسه. ولا تولي أسر يمنية كثيرة اهتماماً مبكراً بالمصاب بمرض نفسي، إلاّ فقط عندما يصبح المريض عدوانياً، أو أن يأتي بسلوك «معيب» كالتعري، عندها فقط تبدأ الأسرة التحرك لعلاجه أو ايداعه المصحة، الأقرب إلى السجن منها الى المستشفى. وتشير التقديرات إلى وجود نحو مليوني مريض نفسي وعصبي، غير أن التقديرات تستند إلى المسجلين في سجلات المشافي الحكومية والخاصة. ولا تتضمن أولئك الذين يلجأون إلى المشعوذين وما يُسمى بالعلاج الديني أو الذين لا يطلبون العلاج. ويُعتبر الطب النفسي مجالاً هامشياً، ويقع في ذيل الاهتمامات الرسمية والشعبية. ويؤدي ضعف البنية التحتية الصحية عموماً والنفسية على وجه الخصوص، الى محدودية العلاج النفسي وضعفه. ويتوازى مع ندرة المشتغلين في مجال الطب النفسي وضعف تأهيلهم، وتشكو الجهات المختصة من ضآلة عدد الكادر الطبي النفسي الذي لا يزيد على 50 طبيباً، بمعدل طبيب واحد لكل 40 ألف مريض نفسي، أي طبيب واحد لكل 500 الف مواطن. وتؤكد مصادر طبية ودراسات ميدانية تخلّف الممارسات العلاجية النفسية، مشيرة إلى إنها تنصب في الغالب على استخدام العقاقير والرعش الكهربائي بل وأحياناً الضرب والتقييد. ويقول بعضهم إن المصحة في اليمن «أقرب إلى مؤسسة العقاب أكثر منها إلى مستشفى للعلاج». وقالت مصادر طبية طلبت عدم الكشف عن هويتها، إن بعض العقاقير الموصوفة لمرضى نفسيين تؤدي إلى بروز اضطرابات نفسية جديدة تضاعف من حال المريض، مؤكدة غياب الأساليب العلاجية الحديثة في ممارسات العاملين في حقل الطب النفسي اليمني، وبحسب المصادر نفسها، فإن ممارسين يدغمون الاعتقادات بالممارسات الطبية العلاجية. وقلّما يتعافى مرضى الأمراض العقلية بشكل تام بعد فترات علاج يقضونها في المصحات. ومن الواضح أن تدني طلب العلاج النفسي في اليمن لا يعود إلى ارتفاع تكلفة أسعار العلاج فقط، بل ويرتبط أيضاً بطيبعة الثقافة العامة ونمطية التصور الشعبي عن المريض النفسي. وبحسب دراسة ميدانية فإن معاناة المريض النفسي تتضاعف مع النساء والاطفال. وكشفت دراسة أجريت في وقت سابق في صنعاء تدني عدد النساء والأطفال الطالبين للعلاج النفسي، مؤكدة أن معظم النساء يقصدن غالباً عيادات خارجية بسبب ثقافة العيب. ويعزو باحثون تزايد حالات الانتحار بين اليمنيات الى محدودية الخدمة الصحية النفسية المقدمة للإناث. ويعود تدني عدد الأطفال المسجلين في مستشفيات الطب النفسي إلى اعتقاد عدد كبير من الاسر أن الاطفال لا يصابون بأمراض نفسية. وتتعرّض نساء وأطفال للضرب على يد مشعوذين خصوصاً في الريف بدعوى طرد الشياطين، غير أن هذا لا يعني أن مؤسسات الطب النفسي الحديث باتت مثالية. وتشير تقارير منظمات حقوقية محلية ودولية إلى وجود خلط بين المصحة والسجن، موضحة أن بعض مرتكبي الجرائم ممن يعانون من أمراض عقلية يُعتقلون من دون توفير رعاية طبية مناسبة لهم. وتحتجز السلطات أشخاصاً مصابين بأمراض عقلية من دون توجيه اتهام إليهم، وتضعهم في سجون مع المجرمين. وكان عدد من المرضى النفسيين الهائمين في الشوارع، ضمن ضحايا القتال الذي شهدته صنعاء وعدد من المدن اليمنية العام الماضي، وسجلت حوادث قتل واصابة لمرضى نفسيين ممن يسكنون الشارع. ولا يوجد في اليمن تشريع ينظم مهنة الطب النفسي ويحمي خصوصية المريض النفسي، وتشير مصادر طبية إلى ضعف الالتزام بأخلاقية المهنة لدى كثير من ممارسيها.