ما الذي يحفز الثورات عموماً؟ التمرد على أوضاع اجتماعية وسياسية لم تعد مقبولة من قطاعات واسعة من المجتمع الثائر، أم التطلع إلى أوضاع جديدة، مغايرة لما هو قائم؟ وهل هناك ترابط محتوم بين الأمرين، بحيث إن هدف الثورة السلبي، هدم ما هو قائم، يمهد تلقائياً لهدف الثورة الإيجابي، إقامة أوضاع أخرى أكثر عدالة؟ هذا السؤال النظري يطرح نفسه اليوم عملياً على السوريين. ففي الأطوار الباكرة من الثورة كان الترابط بين إسقاط النظام والسير نحو سورية جديدة، ديموقراطية بصورة ما، يبدو أمراً بديهياً لا إشكال فيه. وكان الجديد السوري مُدوّناً في حركة الاحتجاج ذاتها، في أسلوب عملها السلمي وفي إبداعية نشاطاتها وفي اجتذابها جمهوراً متنوعاً. في أطوار لاحقة، وبالتناسب مع توسع النظام في حربه على الثائرين من محكوميه، سارت الأمور باتجاه تباعد هدفَي الثورة عن بعضهما، ثم تشكلت عملية الهدم في صورة تقلل احتمال أن تعقبها عملية البناء المتصورة في أي وقت قريب. صار إسقاط النظام ضرورة حياة قبل أن يكون ضرورة حرية، وأصبح المسوّغ الأقوى للثورة هو التخلص من طغمة قاتلة، ما كان أحد من السوريين، على درايتهم بمدى قسوتها، يتخيل أن تبلغ من الانحطاط الحد الذي بلغته، وتتفوق على ما يعتبرونه الوحشية القياسية: مواجهة النظام نفسه لتمرد سابق قبل أكثر من 30 عاماً. التفوق معقود منذ الآن بلا ريب لنظام الابن، إن من حيث عدد الضحايا أو المعتقلين أو الدمار المادي أو التمزيق الاجتماعي، أو الأخطار على كيان البلد. دفع هذا الواقع إلى الصدارة مطلب التخلص من الكابوس الجاثم، وليأتِ بعده ما يأتي. الطاقات السياسية والنفسية والجسدية ستتوجه بصورة طبيعية ومتوقعة نحو المواجهة مع النظام واستمرارها، وأقل نحو تصور المستقبلات البديلة. ليست قليلة المشاريع والوثائق التي تتكلم على"اليوم التالي"، لكنها تبدو تقديرات مجردة وتعابير عن رغبات ذاتية، وليست ممكنات حقيقية وثيقة الارتباط بالعمليات الجارية فعلياً في البلد. وخلال نحو 19 شهراً من الثورة بدا أن"غريزتها"تتجه نحو تنويع ميادين الصراع مع النظام ووسائل المواجهة بما يستجيب لأولوية استمرارها إلى أن يتحقق الهدم المطلوب، لنحصل على بداية جديدة. وحتى المقاومة المسلحة التي أضحت مركز ثقل الصراع ضد النظام الأسدي نزع تركيبها الداخلي إلى التنوع والتعقد واللامركزية، تنظيمياً وأيديولوجياً وسياسياً، بما يتوافق مع الحاجة الحيوية إلى الاستمرار أكثر من أي شيء آخر. ليس للثورة على أي مستوى رأس يمكن قطعه أن يوقفها. وما دامت عملية الهدم لم تتحقق فإن استمرار المقاومة مقدّم على أي شيء آخر، أما إذا توقفت أو سُحِقت فلن يبقى أمام السوريين غير العبودية في أشد أشكالها عُتْقاً وبدائية. لكن مقتضيات الاستمرار، من تجذر وتسلح وتعدد في الرؤوس، وتديّن، تبدو أقل ملاءمة للهدف الديموقراطي المنشود. فإذا وضعنا أنفسنا على مستوى صورة هذا الهدف، كان مرجحاً أن نحكم بالسلب على مسار الثورة، كما يفعل خارجيون متنوعون. وبالعكس، إذا وضعنا أنفسنا على مستوى العمليات الجارية، وهي الداخل السوري الحقيقي اليوم، كان محتوماً أن يعاد التفكير في الهدف وتبنى صورته على نحو مغاير. من هذا الموقع سيبدو أن تجذر المقاومة وعنفها يلبيان مطلب امتلاك السياسة والمبادرة السياسية من قبل جمهور واسع كان غير موجود سياسياً، بل أكثر من ذلك امتلاك الحرب أو منازعة النظام على احتكارها، وقد استند إلى هذا الاحتكار لاستعباد عموم السوريين طوال نحو نصف قرن. بعبارة أخرى، الهدف ليس شيئاً يتحقق في ما بعد، عبر"حوار هادئ"ربما، وإنما هو المقاومة الهادفة إلى صنع موازين قوى جديدة، لا بديل عنها كي تكون السياسة ممكنة. فليست هناك فرصة جدية، ولم تكن هناك فرصة جدية في أي يوم، للتخلص من نظام الحرب الأسدي بأدوات الإقناع والحوار السياسي. وإذا كان يمكن قول أشياء كثيرة عن أن المقاومة المسلحة ليست الطريقة المثلى لتحول ديموقراطي، فإن القول الأكثر صواباً هو ان خيار السياسة لم يطرح على السوريين طول 19 شهراً من الثورة. فإن تعذر نزع سلاح النظام وحرمانه من احتكار الحرب، فليس هناك وجه عادل للاعتراض على تسلح المقاومين السوريين ومحاولتهم امتلاك الحرب، ما استطاعوا. فإما سياسة بين سياسيين، وإما حرب بين محاربين. دواعي الاستمرار والتجذر قادت أيضاً إلى تديين متصاعد لأفعال المقاومة، المسلحة منها خصوصاً. والسجل هنا أيضاً متناقض. فالدين يساعد أوساطاً مستباحة ومنزوعة الحصانة على التشكل كأطراف سياسية، ويزودها بلغة للاعتراض والمطالبة، وهو بذلك يلعب دوراً تحررياً. لكن مفهومه لدى بعضهم مصدر لفاعلية انقسامية وطاقة نزاع أيضاً، ولا يساعد على الانفتاح على تجارب وخبرات إنسانية مغايرة. هذا أيضاً يرشح الصراع السوري لطول الأمد. صراعات الدين أطول أمداً وأعنف من صراعات السياسة المحضة. ليس في ذلك ما يبهج القلب، وإن كنا لا نرى أن في ذلك ما يسوّغ"سياسة الأسف"والنواح التي يعرض سوريون كثرٌ استعداداً كبيراً لها. لدينا مشكلات معقدة ومتراكبة، أخطرها هذا النظام الحاكم الذي عقد كل شيء في سورية بدل أن يكون الجهة التي تعالج المشكلات الوطنية. ولا يملك"الآسفون"حلولاً لهذه المشكلة ولا لغيرها، وإن فضلوا توزيع المسؤولية على كثرٍ، ليس النظام إلا واحداً منهم. وإذا كان مرغوباً بالتأكيد أن يأخذ الصراع السوري أشكالاً أقل تدميراً وفظاعة، فلا نرى كيف لذلك أن يحدث من دون سقوط نظام الحرب المستمرة، أو إسقاط السلاح من يده. هذا يقودنا بعيداً من سؤال المطلع: هل الثورات عمليات هدم أم بناء؟ نهايات أم بدايات؟ لا نستطيع الكلام على البناء اليوم، وقد تنقضي سنوات قبل أن يكون ممكناً الكلام عليه. ولكن إلى حين يبدأ النظام الأسدي بالتصرف كطرف سياسي، ليس أمام الثائرين السوريين غير المقاومة ومحاولة كسره في ميادينها.