كان شهر آب اغسطس في البلقان حاراً، ينطبق عليه وصف"اللهاب"، مع وصول درجات الحرارة الى ما يقارب الاربعين. ويقول كبار السن انهم لا يتذكرون مثل هذا المناخ منذ الستينات. و"آب اللهاب"كان حامياً في السياسة أيضاً حيث ارتفعت سخونة الاحداث بسرعة لم تعرفها المنطقة منذ سنوات. وكانت درجات الحرارة السياسية قد أخذت ترتفع منذ منتصف تموز يوليو الماضي، بعد موجة تفاؤل عمت المنطقة بالاعلان عن التوصل الى أول اتفاقات بين صربيا وكوسوفو في بروكسيل تحت رعاية الاتحاد الاوروبي. وذلك بعد اعلان بلغراد المفاجئ عن تأجيل الجولة السابعة من المفاوضات التي كان يفترض أن تؤدي الى اتفاق جديد حول الجمارك ورد بريشتينا باغلاق حدودها أمام البضائع الصربية ثم قيامها في 25/8/2011 بإرسال قوات الشرطة والجمارك لتنفيذ ذلك القرار في معابر الحدود في شمال كوسوفو ذي الغالبية الصربية، والذي تحكمه بلغراد في الواقع من خلال المؤسسات الحكومية التي بقيت هناك منذ 1999. وقد أدى تصرف بريشتينا المفاجئ الى تظاهر الصرب هناك وقطع الطرق وحتى إحراق المعبر الحدودي بين صربيا وشمال كوسوفو، والى مطالبة بلغراد بعقد جلسة مفتوحة لمجلس الامن لمناقشة الوضع الجديد في كوسوفو. لكن غالبية الاعضاء الدائمين في مجلس الامن رأت أن يكتفي المجلس بعقد اجتماع مغلق في 28/7/2011 باعتبار أنه سيعقد اجتماعة الدوري حول كوسوفو في 28/8/2011. وما بين هذين التاريخين أو الاجتماعين ارتفعت درجة الحرارة السياسية في المنطقة من خلال الزيارات الكثيفة لبلغراد وبريشتينا والتصريحات التي رافقت ذلك، وعلى رأسها زيارة المستشارة الالمانية انغيلا مركل لبلغراد وزغرب ثم زيارة رئيسة الحكومة الكرواتية يادرانكا كوسور الى بريشتينا، وما صاحب ذلك من ردود أفعال مؤثرة على غرب البلقان. زيارة مركل الى بلغراد في 23/8/2011 وصفتها الصحافة الصربية "داناس"24/8/2011 بأنها"دوش بارد"على رأس القيادة الصربية. فقد كان الرئيس بوريس تاديتش الذي ربط مستقبل حزبه الحاكم الحزب الديموقراطي بانضمام صربيا الى الاتحاد الاوروبي يأمل أن تحصل صربيا على وضعية"دولة مرشحة"للانضمام للاتحاد في خريف هذا العام بعد أن سلمت بلغراد آخر المطلوبين لمحكمة جرائم الحرب في لاهاي راتكو ملاديتش وغوران هاجيتش. لكن زيارة مركل فاجأت الرأي العام الصربي وأحرجت القيادة الصربية بطرحها لاخر شرط أمام بلغراد: كوسوفو. فقد طالبت مركل بلغراد بكل وضوح أن تسحب مؤسساتها الموجودة في شمال كوسوفو جيب متروفيتسا التي تجعل منه دولة داخل دولة وأن تحقق تقدماً في المفاوضات الجارية في بروكسيل مع كوسوفو في أقرب وقت. كان تاديتش يعد الرأي العام ب"مكافأة"الاتحاد الاوروبي لصربيا في وجه معارضة قومية متنامية تتهمه بالتفريط وحتى الخيانة. بينما حملت زيارة مركل لبلغراد"صدمة"بكل معنى الكلمة، وتوضح صحيفة"داناس"أن جو اللقاء بين تاديتش ومركل"كان يشوبه التوتر أحياناً وكان لا يحتمل في بعض اللحظات". وما أحرج تاديتش على وجه الخصوص أن كل ما قالته مركل له في الاجتماع المغلق بينهما صرحت به في المؤتمر الصحافي الذي أعقب الاجتماع. وتجدر الاشارة هنا الى أن تاديتش قاد"الحزب الديموقراطي"الى الفوز في انتخابات 2008 على أساس الجمع بين متناقضين الانضمام الى الاتحاد الاوروبي وعدم التخلي عن كوسوفو. لكن الآن، بعد أن اعترفت معظم دول الاتحاد 22 من 27 باستقلال كوسوفو وارتباط الاقتصاد الصربي بالاتحاد الاوروبي، لم تعد صربيا قادرة عن التخلي عن خيار الانضمام للاتحاد وليس من السهل الآن عليها تحمل"الشرط الاخير"للاتحاد الاوروبي. وفي حين يحذر وزير الخارجية الصربي فوك يرميتش الذي ليس على وئام دائم مع الرئيس تاديتش من أن الرسالة التي حملتها مركل لبلغراد"ستكون لها آثار استراتيجية على منطقة البلقان"ويحرج رئيسه بمطالبته علناً لكي"يستخدم نفوذه لدى البوسنة"العضوة في مجلس الامن لكي"تؤيد مواقف بلغراد في ما يتعلق بالوضع في كوسوفو"، وجدت الاحزاب القومية فرصة لكي تبدأ"حملة الانتخابات المبكرة"التي من المتوقع أن تعقد في ربيع 2012. فقد أعلن نائب رئيس"حزب التقدم الصربي"ألكسندر فوتيتش في زيارة لمدينة فرانيه التي أطلق فيها"الحملة الانتخابية"بعد يومين من زيارة مركل لبلغراد أن استطلاعات الرأي التي جاءت بعد هذه الزيارة تعطي تقدماً لحزبه على"الحزب الديموقراطي"الحاكم بنسبة 8 في المئة. ولم يكن ينقص بلغراد في هذه الأيام سوى زيارة رئيسة الوزراء في كرواتيا التي ستصبح الدولة ال 28 في الاتحاد الاوروبي الى بريشتينا وتعبيرها عن تأييدها"وحدة أراضي كوسوفو"، وعلّق فوتيتش على ذلك بأن"الشيء الوحيد الذي يجمع بريشتينا وزغرب هو الحقد على بلغراد"ثم جاءت زيارة وزير خارجية تركيا أحمد داود اوغلو الى بريشتينا بعد يومين في 26/8/2008 وإعلانه تأييد أنقرة لكوسوفو لكي"تمارس سيادتها على كل أراضيها"، وهو ما يثير الصحافة القومية في بلغراد ضد تركيا باعتبارها"العدو التاريخي لصربيا". في مثل هذه الاجواء ينعقد مجلس الامن في نيويورك ولكن الانظار تتجه الى بلغراد لمعرفة الموقف النهائي للرئيس تاديتش بعد أن وصل الى نهاية الطريق بشعار"الاتحاد الأوروبي وكوسوفو"، حيث عليه الآن أن يختار بين احدهما وهو يعرف مسبقاً أنه لا يوجد سوى خيار واحد الاتحاد الاوروبي وأن ذلك قد يكلفه خسارة حزبه لانتخابات 2012. وفي هذه الاجواء ليس من المهم ما يحدث في نيويورك بل ما سيحدث في بروكسيل صباح 2 ايلول، حيث ستنعقد الجولة الجديدة من المفاوضات الصربية الكوسوفية بضغط كبير من الاتحاد الاوروبي.