تجتمع الغالبية العظمى من السوريين على عدم التفريط بوحدة اجتماعهم البشري وجغرافيتهم الطبيعية، واستقلالية القرار الوطني/ القومي لبلدهم، كما تجمع غالبيتهم اليوم على ضرورة إجراء إصلاحاتٍ عميقةٍ تغيّر من بنية نظام حرمهم لعقودٍ من الحرّية والكرامة والعدالة، ولو أنّ جزءاً كبيراً منهم تسيطر عليه اليوم المخاوف من عواقب هذا التغيير والمجهول الذي قد يدفع إليه! ينقسم المجتمع السوري اليوم أفقياً وعمودياً في موقفه من حركة الاحتجاجات الواسعة ومشاركته بها أو انضمامه صراحةً إليها، وهي التي استحالت مع الزمن وضريبة الدم إلى انتفاضةٍ تقترب على نحوٍ حثيثٍ من المدينتين الكبيرتين اللتين نأتا نسبياً، حتى الآن، عن الحراك الاجتماعي الذي هزّ البلاد من أقصاها إلى أقصاها. لم تخرج الانتفاضة في كتلتها الرئيسة عن ثوابت شعب سورية. هي تصرّ صراحةً على سلمية تحرّكها وترفض بحزمٍ التدخّلات الخارجية وتنأى بنفسها عن أيّ توجّهٍ طائفيٍّ أو مذهبي أو إثني يدفع نحو اقتتالٍ أهلي أو تقسيمٍ للتراب الوطني، وتستنكر بوضوحٍ ما يترافق معه من تحريضٍ أياً كان مصدره. أمّا متغيّرها الوحيد، الذي اعتبر خروجاً على القانون، فجوهره المطالبة بالانتقال السلمي إلى دولةٍ تصون حقوق مواطنيها وتضمن لهم المساواة أمام القانون وتشرعن لهم حق المشاركة في صنع القرار. في المقابل، لم تثبت نتائج اختبار خيار الحسم الأمني/ العسكري عجزه عن اقتلاع جذور الانتفاضة وتجفيف تربتها، وإخفاقه في محاولة إعادة إنتاج الرعب على المستوى الجمعي فحسب، بل إنّ خوف خسارة السلطة بكل ما يعنيه هو الذي استفحل وأضحى الذين انحازوا إلى هذا الخيار رهينة مصيدة خيارهم الذي استحال رمالاً متحرّكة... تفاقم يوماً إثر يوم مخاطر التدخّل الخارجي وقلقلة البنى الاجتماعية المتماسكة، وتكبّد الاقتصاد المنهك أصلاً مزيداً من الأعباء التي تعرض معاش الناس اليومي للتدهور. كما أنّ ماكينة الإعلام التي تساوقت مع ذلك الخيار وحضّت عليه فشلت في تقديم روايةٍ معقولةٍ تغني عن تغييب وسائل إعلامٍ مستقلةٍ وحيادية، ولم تحقّق نجاحاً يذكر في تشويه سمعة المحتجّين والحط من شأنهم وتحريض الناس عليهم، لكنّها نجحت مع ذلك في إثارة قلقٍ عميقٍ من المستقبل في صفوف فئاتٍ وشرائح اجتماعيةٍ لا يستهان بها. على رغم هذا وذاك، اتسعت رقعة الانتفاضة واشتد عودها، ومع تصاعد أعداد المتظاهرين ومؤيديهم توالدت قياداتها الميدانية التي راحت تعبّر بوضوح عن توجهاتها، علاوةً على تصورها لحل الأزمة السياسية/الاجتماعية التي استحالت مأزقاً عصيّاً على الحل. أمام هذا الزخم، وخارج الفئات التي ترتبط مصالحها الاقتصادية مباشرةً مع النخبة الحاكمة/المالكة القائمة، أو تلك التي تخشى الملاحقات القضائية التي قد تتسبّب بها عملية التغيير المنشود، تترقّب الكتلة الاجتماعية المترددة أو الحيادية أو المؤيدة للوضع القائم والتي يتناهشها القلق مما قد تؤول إليه عملية التغيير، وما قد يرافقها من تزعزع الأمان النسبي الذي تعيش وسطه، على رغم إحساسها الممضّ بالغبن، تترقب بحذرٍ الصراع القائم، منتظرةً تطوراته ونائسةً بين الخشية ممّا قد تجرّه عملية التغيير من عواقب على أمانها الاجتماعي/الاقتصادي والرعب من عواقب تواصل حملة تطويع بؤر الانتفاضة في مختلف المدن والأرياف، وبين الاحترام العميق لشجاعة أولئك الذين يواجهون الموت بصدورهم العارية من أجل أن يعبّدوا الدرب نحو مستقبلٍ أفضل لبلدهم وأطفاله. ما من منطقٍ سويٍّ يعارض بين الحرّية والكرامة والعدالة من جانب، وإمكانية التخلي عن الثوابت الوطنية/القومية أو بعضها التي لم تتزعزع من حيث الجوهر في أوساط غالبية المحتجين على رغم عدائية بعض المواقف الإقليمية والدولية من الانتفاضة ومطالبها المشروعة وضمان حقوق مختلف التكوينات الثقافية أو الدينية أو الإثنية. إذاً، يمكن وفق المنطق السوي عينه جمع ثلاثية المتغير الجديد مع ثلاثية الثوابت الراسخة: وحدة سورية أرضاً وشعباً واستقلالية قرارها السياسي وموقفها الوطني القومي. فما يضمن دمج الثابت القديم بالمتغيّر الجديد إجماع الغالبية بمختلف مكوّناتها وانتماءاتها على ذلك كلّه. هذه المرّة، لا يلعب الوقت لمصلحة الحلّ الأمني/العسكري، بل إنّه، فضلاً عن ذلك، يعرّض فرص الحلّ السياسي/السلمي الداخلي لمزيدٍ من التآكل ويزيد من مخاطر تدخّلٍ خارجي يكون استصدار قرارٍ من مجلس الأمن أولى خطواته، ويفاقم في الوقت نفسه الاحتقان الداخلي ومضاعفات مفاعيله المحتملة. ناهيك عن أنّ الضغوط الاقتصادية المتصاعدة قد تدفع الشرائح التجارية الوسطى والعليا لإعادة حساباتها، ما ينذر بتصدع التحالف معها والذي لن يبقي بدوره المدينتين الرئيستين خارج الحراك الاجتماعي، من المرجح وقتها أن تضع محاولة سحقه داخلهما البلادَ أمام كارثةٍ حقيقية. يمكن مرحلة انتقالية أن تعبر بالجميع إلى دولةٍ تخضع فيها حتّى السلطة لسيادة القانون ويتساوى مواطنوها أمامه لأنّه الضامن الأساس والوحيد لحقوقهم جميعاً من دون استثناء. تبرهن الانتفاضة في شهرها الرابع أن سورية تشق دروب التغيير بمشقةٍ ولكن بإصرار، وأن هذا التغيير يحدث وفق أجندة مصالح شعبها وليس وفق أجنداتٍ إقليميةٍ أو دولية. يمكن هذا المخاض العسير أن ينتهي بولادةٍ طبيعيةٍ من دون حاجةٍ الى تدخلٍ قيصري، يمكن السوريين أن يفعلوا ذلك بملء إرادتهم ومن دون إملاءاتٍ من الخارج وما يعتري مواقف شتى أطرافه من تبدّلات تمليها اتجاهات رياح المصالح. ما من تغيّرٍ جوهريّ يحدث من دون ثمن، لكنّ التخلي عن موقف الانتظار سيحدّ من الكلفة وسيختزل الزمن اللازم للتغيير. يمكن سورية أن تبقى مستقلةً وموحدةً، لكنها ينبغي أن تكون حرّة كذلك، والأكثر أهميةً أن تعبر ذلك المسار بأقلّ الخسائر الممكنة. وعي ذلك يدفع كلّ من يريدها معافاةً وحرّةً معاً للمساهمة في مخاض ولادتها. * كاتب سوري