تنتمي نصوص الشاعر والكاتب اللبناني ناجي بيضون الى ما يمكن تسميته بأدب الفكاهة أو الأدب الساخر الذي دأب ناجي على تنميته والاشتغال عليه منذ سن مبكرة. وإذا كان قد ركز في مطالع حياته على الشعر الضاحك وصائد الاخوانيات دون سواها فلأن هذا النوع من التعبير لم يكن مجهولاً تماماً في الجنوب اللبناني، حيث مسقط رأس الشاعر، بل هو على العكس من ذلك عرف الكثير من الرواج والازدهار على يد شعراء مرموقين من أمثال عبدالحسين عبدالله وموسى الزين شرارة ومحمد نجيب مروة وجعفر الأمين وعلي مهدي شمس الدين وآخرين غيرهم. على أن ناجي الذي نظم عشرات المقطوعات والقصائد الفكاهية والساخرة ما لبث أن نقل موهبته تلك الى خانة النثر محولاً مقالاته الدورية في بعض صحف الخليج الى مناسبة ملائمة لإظهار مهاراته المتميزة في باب المقالة الساخرة التي تذكر القارئ بكتابات عربية مماثلة لابراهيم المازني ومارون عبود وسعيد تقي الدين وغيرهم. بعد كتابيه السابقين"كاريكاتور بالكلمات"و"انتحار عنتر"بادر ناجي بيضون الى اصدار كتاب ثالث، عن رياض الريس للكتب والنشر، بعنوان"ديوان العولمة"ويضم مجموعة من المقالات والزوايا التي سبق للكاتب أن نشرها في صحيفة"الخليج"الاماراتية. والاشكالية الأبرز التي تواجه هذا النوع من الاصدارات تتمثل في كون نصوصها قد أعدت في الأصل لتكون مقالات صحفية محددة الحجم والمساحة ومحكومة بما يقتضيه الموقف من مراعاة لمقتضى الحال ومن ملاءمة لأذواق القراء الذين لا يقتصرون على النخب القليلة والضيقة كما هو الحال مع قراء الكتب. وهي اشكالية لا تواجه بيضون وحده بل تطال معظم الكتّاب والمبدعين الذين يمتهنون الصحافة ويزاولون كتابة الأعمدة والزوايا حيث يواجهون صعوبة بالغة في وضع كتاباتهم تلك بين دفتي كتاب. فلهذا الأخير معاييره وأبعاده وصيرورته الزمنية التي تختلف أشد الاختلاف عن معايير الصحافة اليومية. منتبهين لهذه الحقيقة عمد العديد من الكتّاب والشعراء والمبدعين الى وضع مقالاتهم الدورية في خدمة مشروعهم الثقافي الواسع محاولين التوفيق ما أمكن بين مقتضيات الآني والمباشر وبين مقتضيات الدائم والعميق. اضافة الى أن الكتّاب المرموقين ينتقون من بين مقالاتهم الكثيرة ما يجدونه قابلاً للنشر ويجرون عليه الكثير من المراجعة والتعديلات المناسبة. لم يشذ ناجي بيضون في"ديول العولمة"عن هذه القاعدة، خاصة وأنه انتقى من بين مقالاته ما يندرج في سياق متآلف أو ضمن موضوعة رئيسة واحدة هي موضوعة العولمة التي شكلت خلال العقدين الماضيين المصطلح الأكثر تداولاً على مستويي الجماعات والأفراد. ومن يتتبع مقالات الكتّاب المختلفة لن يبذل كبير جهد لكي يكتشف العلاقة التي تربط بعضها ببعض خاصة وأن الكاتب لا يخرج عن الموضوعة التي يتصدى لها من البداية الى النهاية. على أن ما يلفت في الكتاب الجديد كما في سائر كتابات بيضون هو طابعه السردي الذي يحول كل مقالة من مقالاته الى قصة قصيرة قائمة بذاتها من جهة ومرتبطة بما قبلها وبما بعدها من جهة أخرى. وهو ما يعني بالمحصلة أن القارئ لا بد وان يستشعر بنية روائية من نوع ما لهذه الكتابة، خاصة وأن المؤلف يختفي في شكل دائم خلف شخصيتيه الطريفيتين أبي خليل وأبي محمد ويحملهما من خلال حوارات متلاحقة الكثير من أفكاره وهواجسه ومواقفه وصولاً الى نصوصه الشعرية الساخرة نفسها. تنبني نصوص"ديوك العولمة"برمتها على فكرة أساسية هي العلاقة بين العرب والغرب، وبخاصة الأميركي، في ضوء التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات وللكشوف العلمية المماثلة المتعلقة بالاستنساخ والخريطة الجينية واكتشاف الفضاء الخارجي. وهي علاقة ملتبسة الى حد الانفصام باعتبار أن العرب لا يتصلون بالتكنولوجيا إلا من حيث الاستهلاك والانتفاع لأنهم منقطعون تماماً عن روح العصر وعن جوهر هذه الروح المتصل بالعلم والحرية واستخدام العقل. ولما كانت المفارقة بين ظاهر الأمور وباطنها هي في أساس الكتابة لدى المؤلف فقد بدا بيضون متربصاً بها حيث وجدت وحريصاً على تتبع وجوهها وأشكالها في كافة النصوص. وهي قد بدت جلية بشكل صارخ في شخصية أبي خليل الذي قرر بعد لأي أن يغادر القرن العاشر باتجاه الألفية الثالثة دون أن"يتعولم"، وذلك من طريق احتفاظه بهويته العربية وما يتصل بها من قيم وتقاليد من دون تعديل يذكر. فهو يستخدم الكومبيوتر، على سبيل المثال ويختار لنفسه موقعاً على الانترنت عنوانه مستلهم من المقامات وهو"الموقع الجليل والسجل الطويل في تطلعات أبي خليل". أما البكاء على الأطلال فيتحول الى بكاء على شاشة الحاسوب. انه باختصار دون كيشوت العربي الذي يقدمه المؤلف على الوجه التالي:"كان أبو خليل يعتمر قبعة كاوبوي أميركية جداً فوق كوفية مزركشة بألوان برز منها الأحمر والأسود والأخضر على أرضية بيضاء ويلبس بنطال جينز من أرقى الماركات الأميركية مشدوداً على كرشه العامر بحزام عريض وينقل شبشباً يذكرك بسلاطين بني عثمان ويعلق برقبته كمبيوتراً صغيراً حديثاً جداً يبرز فوق صدرية واقية من الرصاص ويحمل بيديه سيفاً وترساً". مقابل شخصية أبي خليل المتأرجح بين الانتماء الى العولمة وبين الحفاظ على تراث الأجداد تذهب شخصية أبو محمد بعيداً في الانقلاب على الموروث والهروب من التخلف من طريق الهجرة الى أميركا والنأي بنفسه عن كل ما يذكره بماضيه. ويحرص بيضون في أكثر من موقع على استخدام أبي محمد كمعبر عن الكثير من أفكاره المتعلقة بالاستبداد والقمع والتكفير ومصادرة الرأي والرقابة على الأفكار والاعتقالات التعسفية وما سوى ذلك من وجوه الحياة العربية. أما تعلق أبي محمد بالنساء والحب فكان شكلاً آخر من أشكال الاحتجاج على الواقع العربي والانسحاب الى حيث الهناءة والحبور والدفء وهو ما يقوله المؤلف شعراً فكاهياً بلسان بطله:"أطبّب بالغواني ما أعاني/ طريحاً بين غانية وأخرى/ أحابيل السياسة جندلتني/ فتهت"بكارها"وسجنت دهرا/ الى حرية العربية باب/ يضيق بكل رأس حاز فكرا/ سأقضي رغم أنف العمر عمراً/ طليقاً لا تفارقني الفياغرا". يستنفذ ناجي بيضون في"ديوك العولمة"كل ما خطر في رأسه من أشكال السخرية والفكاهة اللتين لا تنجحان في اخفاء المرارة السوداء القابعة خلف سطور نصوصه. والسخرية عنده لا تنحصر في اطار واحد بل تتمظهر في وجوه كثيرة فتركز حيناً على الشكل الخارجي وحيناً آخر على السلوك وحيناً ثالثاً على اللعب باللغة وعلى"الكولاج"اللفظي كما هو الحال في تفكيك اسم نتنياهو ليصبح مقترناً بالنتن، أو استبدال التكنوقراط بالتكنو عراة، أو استبدال الجوكندا بالباراكوندا اثر اكتشاف المؤلف لوجه شبه واضح بين ابتسامة ايهود باراك الغامضة وابتسامة الجوكندا المماثلة، أو تعديل اسم دافيد ليفي ليصبح داود ليفه، أو اعتبار ديك تشيني واحداً من ديوك العولمة الكبار. على أن الإلحاح على هذا النوع من التحويرات والاشتقاقات اللفظية يبدو في بعض الأحيان مفتعلاً ومتعسفاً ويقع في شرك الاضحاك المتعمد الذي يقوم به بعض رواة الطرائف والنكات الشعبية، خاصة وأن بيضون الذي يمتلك حساً عالياً بالمشهد الكاريكاتوري والتربص بالمفارقات المباغتة ليس مضطراً للاستعانة بمثل هذه الشكليات. ثمة ملاحظات أخرى تتعلق بالتنميط الأسلوبي وتكرار المواقف والأفكار وبخاصة في القسم الثاني من الكتاب الذي بدا أقل قوة وتماسكاً من الجزء الأول. وكان يمكن للمؤلف أن يتلافى بعض هنات الكتاب من طريق الاستعانة بالنصوص الشعرية الفكاهية التي برع في نظمها منذ بداياته وبدت أكثر حضوراً في كتابيه السابقين. ومع ذلك فلا بد من الاشارة الى أن المؤلف يمتلك قدراً من السخرية اللماحة يذكرنا في بعض وجوهه بكتابات اميل حبيبي وبأعماله الروائية وبخاصة في"المتشائل". ويمكن لناجي بيضون، لو انصرف أكثر الى الكتابة الساخرة وأعطاها ما تستحفه من تفرغ وجهد، أن يتحفنا بأعمال أكثر فرادة وتميزاً في المستقبل.