دأب المحامي والأديب ناجي بيضون، خلال فترة ليست بالقصيرة، على نشر كتاباته الساخرة المنطوية على روحٍ نقدية في جريدة "الخليج". وكان عمد الى طبع جزء منها في كتاب أول حمل العنوان الآتي: "كاريكاتور بالكلمات". وها هو الآن يصدر منها كتاباً ثانياً عنوانه "انتحار عنتر" دار الفارابي، جعله في قسمين: الأول أقاصيص، والثاني مقالات. وقدّم له الناقد محمد دكروب. كتابة ناجي بيضون تتميز بالرشاقة والسهولة. فهي تقع إجمالاً في قِطعٍ قصيرة، تدور الواحدة منها حول فكرة معينة، ويتمُّ تناول هذه الفكرة وإظهار دلالاتها أو أبعادها بطريقة تخلو من أي تعقيد، وتنحو نحو السخرية التي هي في جوهرها نزعةٌ الى الانتقاد، تخفف في ميْلها الى التهكم من جفاف الموقف النقدي أو حدّته. والكاتب يتميز بنفحة أدبية واضحة. هذه النفحة تظهر أولاً في لغته السلسة الصافية، وتظهر ثانياً من خلال أشعاره التي نصادف مقطوعات منها في ثنايا نصوصه، والتي تنمُّ عن شاعرية لدى كاتبنا، تصدر عن سجيةٍ لطيفة وبديهة حاضرة. ما يكتبه ناجي بيضون هو من نوع أدبي ليس شائعاً في أيامنا. وبيضون إنما يُجيد هذا النوع بما له من قدرة على توظيف عناصر متعددة في بناء نصِّه النقدي الساخر. من هذه العناصر ما هو لغوي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو فكري، ومنها ما هو مأثورٌ تراثي... إلخ. ومن أفضل النماذج على هذا النوع من الكتابة قطعةٌ من "انتحار عنتر" عنوانها "المقاطعة وحائط أبي حيّان". ففيما يهدف الكاتب في هذه القطعة الى تناول مسألة المقاطعة، مقاطعة العرب لإسرائيل، وعلاقة هذه المسألة باحتمالات السلام أو التسوية، نجده يستعمل في سبيل ذلك بعض ما رواه أبو حيّان التوحيدي في كتابه المشهور "الإمتاع والمؤانسة" عن حائطٍ أراد البنّاء الذي بناه لشخص اسمه جحظة أن يستوفي أجرته قبل الانتهاء من عمله. علماً بأن الحائط يسقط أثناء مطالبة البنّاء بالأجرة. وباستعماله قصة الحائط هذه، يُعبِّر الكاتب عن نقده الساخر للموقف العربي في مباحثات السلام وحيال موضوع المقاطعة. وإذا كان في ذلك مستفيداً من مضمون القصة ومما تشير اليه، فإنه في جانبٍ آخر يعمد الى توظيف عنصر لغوي في التعبير عن وجهته النقدية في هذه القطعة، إذْ يلعب على كلمة "التوحيدي" وهو يشير الى الوضع العربي الراهن الذي يفتقر الى الوحدة أو التوحيد. فقبل أن يورد قصة الحائط المأخوذة من كتاب "الإمتاع والمؤانسة"، يمهِّد لها بهذه الفقرة: "لأنّ أبا حيان سيرفض حتماً إمتاعنا ومؤانستنا بقصته هذه سنرويها نحن على طريقتنا مترحِّمين على صاحبها أبي حيّان التوحيدي، الذي قد يشكل لقبه التوحيدي سبباً لمنعه من العبور في هذه الأيام من قبره الى أي مكانٍ آخر في عالمنا العربي المفكك". النقد الساخر في كتابات ناجي بيضون لا يرهق القارىء أو يربكه، وإنما يحمل اليه التسلية، ويوفِّر له إمكانية الضحك والاستمتاع، وذلك بما ينطوي عليه من عناصر التشويق والإثارة. والأهم في ذلك كله هو الأسلوب البسيط أو السهل الذي تتحلى به كتابات بيضون، فلا تنوء بمحمولها الثقافي، الذي هو محمولٌ غنيٌّ ومتنوِّع، لا تنوء به لأنه يصلنا بخفّةٍ ورشاقة، أو يتراءى لنا مخزوناً يتوفَّر للكتابة دون كد أو تكلف، يتوفّر تلقائياً للكاتب أثناء الكتابة، فيوظفه على نحوٍ أو آخر، من دون أن يؤثر ذلك على انسياب النص بطلاقةٍ وسلاسة. "انتحار عنتر" كتابٌ رشيقٌ وممتع، يجذب القارىء ويقدم له مادة متنوعة، بأسلوب نقدي ساخر، يوفِّر له التسلية والانطلاق.