يتزايد اهتمام الناس بالفكاهة وتداولهم للنكتة والطرفة إلا أن ذلك لا ينعكس إيجابا على المنتج الأدبي الفكاهي إن لم نقل إنه في تناقص! أليست الأوضاع مشجعة والفرصة سانحة لجذب الناس إلى الأدب في هذه الأيام من خلال أدب فكاهي؟ ألا يمكن أن يكون الأدب الساخر بديلا نقديا إذا ضاقت مساحة الحرية أمام أدب جاد؟ تلك قضية نطرحها أمام الأدباء والكتاب ليناقشوا أسباب وجود الفكاهة في الشارع وغيابها عن الأدب. الحرية والمنهجية في البدء يقول الشاعر والأديب حسن السبع: سأبدأ من حيث انتهى سؤالكم: «ألا يمكن أن يكون الأدب الساخر بديلا نقديا إذا ضاقت مساحة الحرية أمام أدب جاد»؟ بلى، يمكن ذلك إذا توفرت الشروط اللازمة لازدهار هذا اللون الأدبي الذي لا يزدهر، أيضا، ما لم تتهيأ له مساحة من الحرية. وقديما كان الهجاء شكلا من أشكال الأدب الساخر. لكنه خرج في أيامنا هذه من إطاره الخاص إلى العام، فأصبح شكلا من أشكال النقد الاجتماعي والسياسي، وتحول إلى موقف نقدي، ولم يعد هذا الشكل من هجاء المواقف والعيوب الاجتماعية قاصرا على الشعر وحده، بل تجاوزه إلى بقية أشكال التعبير الفنية. نعم يستطيع الأديب الساخر أن يمرر باحتجاجه الضاحك، ما لا يستطيع الكاتب الجاد تمريره. فكأنه قد أعطي ضوءا أخضر، أو رخصة اجتماعية تتيح له مساحة واسعة من التعبير. مع ذلك فقد أسيء فهم هذا اللون الأدبي على مرّ العصور. ويبدو لي أن بؤس الكوميديا العربية في الوقت الراهن ليس ناجما عن شح في المضامين، فالواقع العربي، ولا فخر، زاخر بالعجائب والمفارقات، وبالسلوكيات الغريبة القادرة على تفجير أنهار من الدعابة لا ينضب معينها. المضحكات المبكيات كثيرة، وملقاة على قارعة الطريق لمن يحسن التقاطها وتوظيفها توظيفا كوميديا ذكيا. إلا أن الساحة الثقافية تعاني من شح في النصوص التي تتناول تلك المفارقات. وقد انعكس غياب النص الأدبي الساخر أو ضعفه على أداء الكوميديا العربية بشكل عام. فلا تجد في ما تنتجه الساحة الفنية من أعمال كوميدية سوى ما يمكن أن يطلق عليه «خفة الظل التي لا تطاق». وفرق شاسع بين الدعابة الذكية والتهريج، لذلك لا يمكن هجاء القبح والتفاهة، أو تقويم اعوجاج السلوك بأسلوب ركيك ممجوج. وللسبب نفسه يرى الفيلسوف برغسون أنه «حتى العبث الهزلي له معقوليته الخاصة، وهو في أبعد فلتاته وجنونه ذو منهج». اسطوانة أوكسجين من جانبه يقول الروائي والإعلامي عدنان فرزات: الأدب العربي الساخر قديما كان وقعه أكبر في التاريخ، وظل متجذرا حتى وصلت أغصانه جيلا إثر جيل، مثل كتاب البخلاء للجاحظ والكثير من الكتب التي نقلت لنا طرائف شخصيات الأولين كشخصية جحا والطنبوري وغيرهما. ويضيف فرزات: اليوم انحسر الأدب الفكاهي وتأطر، ولكن ليس بالطموح المطلوب، أي ليس كالقصص الساخرة التي قدمها الكاتب التركي عزيز نيسن مثلا، وهناك أدب عربي ساخر ولكن لم يؤسس لمشروع تاريخي، ومن المهم جدا أن مواقع التواصل الاجتماعي كشفت نوعا جديدا من الكتابات الساخرة بل وقدمت أدباء ساخرين لم يكونوا مصنفين ضمن الأدباء، وكثير منهم تفوق على الأدباء المعروفين، وفي هذه الجزئية إجابة على سؤالك بأن هذا النوع من الكتابات الساخرة هو بديل نقدي عن الأدب الذي يمكن أن تحاصره الرقابة، ولكنه ليس بديلا عن الأدب الجاد لأنه لا يمكن مقارنة نوع أدبي بنوع آخر، العرب يتخذون من السخرية أسطوانة أوكسجين للتنفس.. ليس إلا. ورش وحلقات فيما يقول الكاتب الأردني جعفر العقيلي: تلجأ الشعوب إلى الفكاهة والسخرية عند ما تضيق في وجهها الحياة وتشتد الأزمات. وهناك من يرى أن السلطات في بعض الدول تستعين أحياناً بشخصيات معروفة في مجال الأدب الساخر والمقالة الساخرة والكوميديا الساخرة التي تُقدم على خشبة المسرح أو من خلال تقنية (Stand up comedy) لكن شتان بين المستوى الفني لكثير مما ينتج في هذا المجال عربياً وبين الأدب الساخر الذي عرفناه في كلاسيكيات الأدب العالمي وبخاصة في التجربتين الروسية والتركية. أنا أرى أن الأدب الساخر فنّ صعب المراس، لا يمنح مفاتيحه للعابرين، ولهذا عند معاينة المنجز العربي في هذا المجال يسقط كثير منه في الاختبار، نحتاج، والحالة هذه، إلى ورشات وحلقات تدريبية موجهة أو مكرسة لهذا الفن العبقري، لتطوير أدوات الموهوبين أو الراغبين في خوضه. قدرة وندرة ويؤكد الدكتور محمد البشير أن وسائل التواصل الاجتماعي أظهرت لنا شعباً ساخراً على خلاف الصورة النمطية للشعب السعودي، ولكن هذه السخرية لم تصل بعد إلى رفع عدد الكتاب الساخرين في المجتمع، فالكاتب الساخر نادر، وهذا ما يجعلنا نعد البارزين منهم على أصابع اليد الواحدة، وربما يتفق أغلب القراء بأن الإقبال على أعمدة الكتاب الساخرين هو السمة الأبقى بين أعمدة الكتاب، وهذا ما تصادقه أعداد القراءة الإلكترونية للمقال الساخر، وتداول المقالات الساخرة في وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى. ولعل المزيد من الأدب الساخر كفيل بجذب مزيد من القراء، بل هذا ما يفعله في ظل اتساع دائرة القراءة، والدليل ترويج المقالات الساخرة في قوالب القراءة الحديثة، التي حلّت مكان الصحف، فلا خلاف أن (واتس أب) على سبيل المثال أصبح قناة جديدة للقراءة. ولعلنا ندرك جميعا أن السخرية الوسيلة الأنجع لنقد كثير من المظاهر، فكم من قضية تعجز عن تناولها الأعمدة الجادة؛ جابهتها الأعمدة الساخرة ورسوم الكاريكاتير، فالعمود الساخر حروف مرسومة بسخرية وبفرشاة رسّام كاريكاتير. ذوق عام ويؤكد الروائي ناصر الجاسم أن النكتة أو الطرفة ساخرة وغير ساخرة، سواء هبطت للعامية أو ارتقت للفصحى فهي لا قيمة لها إلا إذا استوفت شروط ابداعها، وأهمها شرط الإضحاك أو إحداث أثر يصل بالسامع إلى الابتسام الطويل أو التوقف عند سماعها للتأمل، أو إنعاش الروح من الداخل ولو كانت النتيجة صمتا مطبقا، ذلك أن ردود أفعال الناس اتجاه النكت والطرف متفاوتة ومتباينة، وهنا تدخل الثقافة والمزاج النفسي او الحالة الشعورية، ومع ذلك يوجد مستوى متوسط من القبول لعدد من النكات والطرائف عند أغلبية القراء والسامعين، وهذا حققته نكت وطرائف مكتوبة بالفصحى، تستحق نعت نكت خالدة وعابرة للأجيال، وأخرى صيغت باللهجة العامية، ويبقى الأمر في النهاية رهن اتجاه الذوق العام للناس في العصر الذي يعيشونه وليس لطبيعة النكتة أو الطرفة.