إذا كان السناتور الأميركي السيّء السمعة ماكارثي، قد انطلق في معركته القامعة للفكر أواخر أربعينات وأوائل خمسينات القرن الفائت، ليركز حملته على هوليوود وسينماها والعاملين فيها بزعم انها وكر للفكر الشيوعي والتقدمي، فإن اضطهاد اليمين الأميركي المتطرف للفنون بدأ قبل ذلك بزمن ليطاول المسرح قبل أن يطاول السينما، ولا سيما في سنوات الثلاثين، حين كان من الصعب أن تكون ثمة فرقة مسرحية تحترم نفسها وتعلن انتماءها الى فكر يميني ما. المسرح الأميركي الحقيقي والكبير، والذي ولد من رحمه أمثال كليفورد أودتس وأورسون ويلز وصولاً الى ايليا كازان وآرثر ميلر وتنيسي ويليامز، وعشرات غيرهم، كان بالضرورة مسرحاً يسارياً لا يتوقف عن توجيه سهامه الى القوى الرجعية والفاشية وأفكارها. ومن هنا، يندر لنا أن نقرأ تاريخاً للمسرح الأميركي أواسط القرن العشرين إلا وفيه حكايات وحكايات عن ذلك الاضطهاد، الذي كان من نصيب كل صاحب فكر نيّر أراد أن يعبر عنه في المسرح. وحسبنا، في هذا الإطار ان نراجع تاريخ مسرح"مركوري"أو"مشروع المسرح الاتحادي"، للتيقن من هذا. بل حسبنا ان نشاهد أفلاماً تحكي عن تلك المرحلة لنكتشف كم وكيف تمكن المسرحيون من خوض معركة عنيفة ? إنما غير متكافئة ? مع السلطات. ولعل الحكاية التي يبدو لنا مفيداً أن نتحدث عنها هنا، حكاية الكاتب إِلمر رايس، واستقالته من رئاسة"مشروع المسرح الاتحادي"يوم احتج على السلطات التي حجبت العون عن ذلك المشروع لمجرد أنه أراد عام 1936 أن يقدم مسرحية عنوانها"أثيوبيا"تندد بغزو الزعيم الفاشي الإيطالي موسوليني أراضي الحبشة. كان المسرح الأميركي في ذلك الحين أشبه بمرآة نزيهة لما يدور في أميركا والعالم. وكانت السلطات له في المرصاد. أما بالنسبة الى إلمر رايس، فإنه يبقى، الى جانب عدد من أصحاب الأسماء الكبيرة في تاريخ المسرح الأميركي لتلك الحقبة، واحداً من كبار الذين لم يجابهوا، فقط، يمينية السلطات الفنية والمسرحية بخاصة، بل جابه الحلم الأميركي والحداثة الأميركية المفسدة وحتى نمط العيش الأميركي في ما لا يقل عن نصف دزينة من مسرحيات تعتبر اليوم من أسس"الريبرتوار"المسرحي في تلك البقعة من العالم. وإذا كانت مسرحية"مشهد في الشارع"تعتبر أشهر أعمال إلمر رايس، فلا شك في أن مسرحيته الثانية والتي كتبها ست سنوات قبل"مشهد في الشارع"هي الأقوى والأكثر تماساً مع الشرط الإنساني المعاصر، من بين أعماله كلها. وهذه المسرحية هي"الآلة الحاسبة"1923. ورايس كان قبل كتابة"الآلة الحاسبة"قد كتب أولى مسرحياته"قيد المحاكمة"وكانت عملاً ميلودرامياً، من أبرز خصائصه ان إلمر رايس استخدم فيه للمرة الأولى، على خشبة مسرحية، تقنيات سينمائية وتقنيات الرجوع الزمني، التي ستصبح رائجة من بعده. وكان ظهور"قيد المحاكمة"عام 1914، أي قبل سنوات من لجوء ايزنشتاين وماياكوفسكي في روسيا والاتحاد السوفياتي الى تلك التقنيات. المهم في الأمر أن التجديد التقني الذي برز في"قيد المحاكمة"سرعان ما احتل مكانة، لدى رايس، وبعد أقل من عشر سنوات لتجديد أساسي في الموضوع، كان ذاك الذي عبرت عنه"الآلة الحاسبة". وهنا إذ نقول تجديداً في الموضوع، يجب ألا يسهى عن بالنا ادخال إلمر رايس السوريالية كعنصر تجديدي في المسرح، في وقت كان السورياليون الأوروبيون أنفسهم لا يزالون يبحثون عن طرق تمكّنهم من دمج السوريالية في المسرح. لكن"الآلة الحاسبة"وبعد كل شيء، وعلى رغم شكلياتها اللافتة، مسرحية شديدة الواقعية، وعلى الأقل من ناحية الموضوع الذي تطرقت اليه. موضوع علاقة الآلة بالإنسان، والأزمان الحديثة التي ما فتئت تحول الإنسان نفسه الى آلة. وهو، كما نعرف، موضوع سيهيمن تماماً، بعد ذلك على فكر القرن العشرين وكتابات مفكريه. وقد عبر رايس عن موضوعه هذا، من خلال شخصية بطل المسرحية"مستر زيرو"السيد صفر، الذي صوره لنا، في فصلين أساسيين خلال مرحلتين أساسيتين من وجوده: حياته ومماته. وإذا كنا هنا نعتبر مرحلة ممات"مستر زيرو"جزءاً من وجوده، فما هذا إلا لأن الكاتب رأى أن من المفيد أن يجعله يعود الى الظهور علينا، مسرحياً، بعد موته، وفي لعبة مسرحية تدين بالكثير الى السوريالية، ليحاسب نفسه ويحاسب زمنه راسماً جردة حساب ليس لوجوده الأول حياته بل لما يهيمن العصر به علينا: أي قدرته على تحويلنا الى آلات وأرقام. ونحن منذ البداية نشاهد"مستر زيرو"يقدم الينا، وما من اسم له سوى الرقم صفر الذي يكنّيه المجتمع الحديث به. فهذا المجتمع ألغى، كما يخيل الينا منذ بداية الفصل الأول، أسماء الناس ليعطيهم بدلاً منها أرقاماً تعلو أو تنخفض قيمةً تبعاً لأهمية مكانة صاحب الرقم في السلّم التراتبي للمجتمع. وهكذا، إذ نعرف أن"بطل"المسرحية يسمى"صفر"سندرك بسرعة ان مكانته في أسفل السافلين في هذا المجتمع. إذاً، في هذه المسرحية التي تنقسم قسمين متوازنين، يقدم الينا"مستر زيرو"خلال حياته، ثم بعد موته، لكنه في الحالين لا يقدم ككائن بشري وإنما كآلة. انه هو، هنا، الآلة الحاسبة أو"آلة الجمع"بالأحرى ان نحن اتبعنا حرفية الإسم. وقد تعمد رايس، طبعاً، إذ قدم"حياة"بطله في نصفي العمل، أن يرينا في النصف الأول تلك الحياة من منظور صارم سوداوي روتيني ممل، انما شديد الواقعية في تصويره الحياة"مستر زيرو"، وهو موظف بائس غير مثير للشفقة ولا للتعاطف، يعامل في كل مكان، في البيت، في الطريق وفي العمل بصورة شديدة الاحتقار، ما يجعل الأمر ينتهي به الى قتل مديره. وبهذه الجريمة، ننتقل مع المسرحية الى العالم الآخر، حيث يستقر"مستر زيرو"الآن. وهذا الجزء من المسرحية هو الذي يتسم، أكثر من الأول بكثير، بالطابع السوريالي، ليس فقط من ناحية الأجواء الماورائية وديكوراتها، بل من حيث اختيارات"مستر زيرو"نفسه. فهو هنا، على عكس ما كانت عليه حاله في حياته الأرضية، حيث لم يكن أمامه إلا أن يختار عمله كآلة حاسبة، هو نفسه، قبل أن يقرر رئيسه أن يستبدله حقاً، وبعد خمسة وعشرين عاماً من الخدمة بآلة حاسبة حقيقية. لقد كان هذا القرار السبب الذي فجّر غضبه ودفعه الى ارتكاب الجريمة، من دون أن تكون له أدنى قدرة على تغيير مصيره. أما هنا، في الحياة الآخرة، فإن أمامه عشرات الاختيارات التي يمكنه أن يتأرجح بينها حتى يصل الى ما يرضيه ويعوضه عن كل ما فاته. فماذا يختار؟ بكل بساطة ومن بين كل ما يعرض عليه، يختار أن يطير هارباً من كل ما كان قد حلم به طوال حياته. فهذه الأمور التي عاش حياته كلها يحلم بها، لأنها كانت تمثل بالنسبة اليه، السعادة المطلقة التي كان يعرف على وجه البسيطة ان حياته العادية والتزاماته العائلية واضطهاد رئيسه في العمل له، لن تمكنه أبداً من تحقيق أي منها، هذه الأمور لم يعد قادراً على القبول بها، حين صارت في متناول يديه، فيقرر ان الشيء الوحيد الذي يريده الآن، انما هو العودة الى ما كانت أوضاعه عليه، الى حياته العائلية، الى"طمأنينة"الماضي. من الواضح أن هذا الرضوخ المدهش للشرط الإنساني بكل كآبته، والذي صورته مسرحية إلمر رايس، كان هو ما فتن كثراً في هذه المسرحية، بمن فيهم تنيسي ويليامز حين كتب مسرحيته"سلّم الى القمة"، وربما أيضاً شارلي شابلن حين صور"الأزمنة الحديثة". أما بالنسبة الى إلمر رايس 1892 - 1974، فإن هذا العمل كان جزءاً من نظرته السوداوية الى العالم، وربما بخاصة الى أميركا، التي ولد وتربّى وعمل فيها، لكن الأمر انتهى به أخيراً الى مبارحتها حيث عاش آخر سنوات حياته ? ومات ? في إنكلترا. وإلمر رايس واسمه الأصلي ايزنشتاين بدأ حياته دارساً الحقوق، لكنه سرعان ما تخلّى عنها وانصرف الى الأدب ولا سيما الى الكتابة المسرحية التي أصبح، بسرعة، واحداً من أقطابها في نيويورك... بعد أن بدأت مسرحياته تعرض وتلقى نجاحاً، وبخاصة منها"مشهد في الشارع"التي حولها مع كورت فايل الى أوبرا، ونال رايس عنها جائزة بوليتزر عام 1929. [email protected] نشر في العدد: 16764 ت.م: 26-02-2009 ص: 14 ط: الرياض