من الأنواع السينمائية التي تعرف الكثير من النجاح على مدى تاريخ الفن السابع، تلك التي يحكي فيها الفيلم حكاية فيلم آخر، أو حكاية مأخوذة من تاريخ الفن السينمائي نفسه. وهذا النوع يسمى"سينما عن السينما"، وهو شيق وذكي عادة، تمكن من أن يجعل تاريخ السينما تاريخاً يحتفل به حتى وإن كانت معظم المواضيع في هذا السياق تدنو من البعد التراجيدي، أو تقدم حكايات فيها جرائم وانهيارات شخصية وهذا يمتد من"سانست بوليفار"الى"المداليا السوداء"فيلم بريان دي بالما الذي عرض العام الفائت. ولكن مهما كان جمال هذا النوع وارتباطه بنوع بيّن من النوستالجيا، ثمة نوع قريب منه يدانيه قوة، وأحياناً يفوقه جمالاً، وهو المتعلق بأفلام تحكي عن تاريخ المسرح كما حال"شكسبير عاشقاً"، على سبيل المثال. ذلك لأنه مهما كان مقدار السحر في تاريخ السينما، من المؤكد أن مقدار السحر الذي يعبق به تاريخ المسرح، خصوصاً أنه الشقيق الأفقر للسينما، ثم الشقيق الأكثر إثارة للمتاعب ولمواقف الرقابات، يزيد كثيراً عما في تاريخ السينما. كل هذا يجول في خاطر المرء وهو يتفرج على واحد من أجمل الأفلام التي حققتها هوليوود في هذا المجال خلال السنوات الأخيرة، وهو فيلم"المهد سيهتز"من إخراج تيم روبنز المعروف كممثل، لكنه مع هذا يدنو من الإخراج بين الحين والآخر. ولا سيما حين يكون في جعبته موضوع تقدمي النزعة ديموقراطي الهوى. وكانت تلك الحال بالنسبة الى هذا الفيلم، الذي يروي في الأساس حكاية عرض مسرحي غنائي قدمه أورسون ويلز في سنة 1937 في الولاياتالمتحدة. لكنه جوبه بمتاعب إدارية ورقابية جعلت لحكاية تقديم المسرحية تاريخاً غريباً إنما مفعماً بالسحر. وأدى الأمر في النهاية الى تأسيس واحدة من أشهر الفرق المسرحية - الاستعراضية في تاريخ الحركة اليسارية الأميركية، وهي فرقة"ميركوري تياتر"التي أسسها ويلز مع الكاتب جون هاوسمان خلال تلك السنوات. من هنا فإن ما يعنينا في هذا الكلام ليس طبعاً فيلم تيم روبنز، بل استعراض"المهد سيهتز"نفسه، لأن الحكاية هي حكايته والمغامرة مغامرته. علماً أن روبنز حين جعل من فيلمه حكاية عن هذه الحكاية، دمج في الفيلم عناصر متخيلة لا علاقة لها بالحكاية الأصلية، ومنها اشتغال الفنان المكسيكي دييغو ريفيرا وروكفلر من حول رغبة ريفيرا في إدخال صورة لينين في اللوحة ومعارضة روكفلر ذلك. في حكاية الاستعراض الأصلية ليس للأمرين علاقة ببعضهما البعض. بل ان حكاية الاستعراض المسرحي تبدو كافية وحدها لبعث ماض أميركي نضالي عريق في مجال الفن. تبدأ الحكاية باستعراض مسرحي كتبه سنة 1937 مارك بليزشتين، كجزء من مشروع انتاج مسرحي ضخم كان يتم تحت رعاية مؤسسة حكومية هي"فيديرال ثياتر"انشئت في عهد روزفلت لمساعدة الفنانين التقدميين والديموقراطيين على تقديم أعمالهم، وأفكارهم عبر تلك الأعمال. وكان الزمن، بعد نجاحات سياسة الرئيس روزفلت الاقتصادية، زمناً ديموقراطياً مسايراً لحقوق العمال والطبقات الكادحة من ناحية، ولمقارعة بداية انتشار النازية في الولاياتالمتحدة من ناحية ثانية. وضمن هذا الإطار كتب بليزشتين مسرحيته بطلب من أورسون ويلز كمخرج، وجون هاوسمان كمنتج. وموضوع الاستعراض بسيط من ناحية الشكل، لكنه أكثر عمقاً من ناحية المضمون. وهو يسير على النمط البريختي من ناحية البطولة الجماعية، وتركيز الحبكة من حول مسألة وعي الناس بحقوقهم. ومن هنا اتخذت"المهد سيهتز"طابع المجاز السياسي والاجتماعي في مجال تناولها للفساد والجشع الطبقيين. وتدور أحداث الاستعراض في مدينة أميركية عمالية أطلق عليها اسم"ستيل تاون"مدينة الفولاذ تيمناً بصناعة الفولاذ واستخراجه التي كانت في ذلك الحين عموداً أساسياً من أعمدة الاقتصاد الأميركي. وما ترويه المسرحية هو الجهود التي يقوم بها لاري فورمان لجمع العمال في اتحاد نقابي بغية التمكن من محاربة رجل الأعمال الفاسد والمستغل مستر مستر أو السيد سيد. وهكذا من خلال هذا الموضوع البسيط يجد الكاتب فرصته سانحة لرسم صور لعدد لا بأس به من النماذج الاجتماعية - على طريقة بريخت دائماً -، مثل زوجة السيد سيد الرديئة والتي تغطي رداءتها بأعمال خير اجتماعية استعراضية تقوم بها، ومثل الفنانين الذين يبيعون أنفسهم للمنتجين ضحلي الفكر لاضطرارهم الى ذلك، والبائعين، وعائلات المغتربين البائسين، ورجل دين لا إيمان حقيقياً له، وعاهرة طيبة في سريرتها ليس عهرها سوى سعي وراء الرزق. إن هذه الشخصيات كلها تتأرجح أمامنا بين اليأس والأمل، والهزيمة والانتصار في عمل جُعل معظم حواره غناء ما حوّله الى أقرب ما يكون الى عمل أوبرالي معاصر، ناهيك أن بليزشتين مزج في العمل الكثير من الأغنيات الشعبية الحديثة. ذلكم هو موضوع المسرحية. فما الحكاية حولها إذاً؟ الحكاية بسيطة: هذا العمل كان كتب أصلاً ليقدم على خشبة ماكسين ايليوت ثياتر. وحدد الموعد وبيعت التذاكر كلها للعرض الأول بالفعل. ولكن هنا بالتحديد أعلن عن أن المسرح الفيديرالي تمنع عن دفع كلفة الانتاج، بسبب شح مفاجئ في الموازنة. وطبعاً كان من الواضح أن المسألة ليست مسألة موازنة، بل مسألة رقابة سياسية فرضتها الحكومة إذ وجدت أن يسارية الاستعراض فاضحة. وهكذا، حين أصر أصحاب العمل على تقديمه حتى من دون أن ينالوا دعماً مالياً، سارعت السلطات الى إرسال قوات مسلحة أحاطت بالصالة المسرحية مانعة أياً كان من الدخول أو الاقتراب... وأقفلت المخازن لمنع الوصول الى الاكسسوارات والملابس. فماذا يفعل ويلز وأصحابه؟ لم ييأسوا: جمعوا بعضهم بعضاً واستأجروا شاحنة وضعوا عليها آلة بيانو، ثم ساروا في تظاهرة من مكان وجودهم، الى صالة مسرحية أخرى غير بعيدة. وسار معهم جمهور غفير ولكن أيضاً عدد لا بأس به من الصحافيين والكتّاب والفنانين ومن بينهم ارشيبالد ماكليش الذي سيقول لاحقاً ان تلك كانت أغنى تجربة عاشها في حياته. في النهاية وصل الجمع الى الصالة الجديدة، ليجد أن أمراً إدارياً قد صدر عن السلطات العليا، يمنع الممثلين، تحت طائلة العقاب، من أن يعتلوا خشبة المسرح. يمكنهم فقط أن يبقوا في الصالة بين الجمهور. مرة أخرى إذاً نطرح سؤال ما العمل؟ الخالد، تفتقت لبليزشتين فكرة بسيطة: هو ليس ممثلاً وبالتالي ليس ممنوعاً عليه أن يعتلي المسرح. وهكذا جلس وراء البيانو وقد قرر أمام الجمهور المتحمس أن يقدم العمل كله بمفرده، تمثيلاً وغناء. لكنه لم يفعل... وببساطة، لأنه ما إن بدأ يقدم أغنيات البداية، وصل دور العاهرة مولي لتشارك في الحوار، حتى انطلقت الممثلة التي تلعب دور مولي أوليف شانتون تصدح بدورها من مقاعد الصالة فالأمر الصادر لا يمنعها من ذلك... وعلى الفور راح الممثلون تباعاً ينشدون مع بليزشتين ويردون عليه من مقاعدهم في الصالة. وتم الأمر على هذا النحو والجمهور مندهش بين مصدق ومكذب، حتى كان موعد الفصل النهائي الذي يتعين أن يتعدد فيه المنشدون الممثلون، فإذا بهم جميعاً ينزلون الى الفسحة الخالية بين الصالة والخشبة ويواصلون أداء أدوارهم حتى النهاية والجمهور بأسره يشاركهم الغناء والتصفيق والشعارات التي تحيي نضالات البؤساء التقدميين، منددة بيمين غبي لم يدرك، بحسب ما سيقول هاوسمان لاحقاً في مذكراته، ان صاحب القضية المؤمن بقضيته لن يفوته ان يعثر على حيلة ذكية وقانونية تمكنه من إكمال طريقه. طبعاً قدم استعراض"المهد سيهتز"مراراً وتكراراً بعد ذلك. وحولت حكايته الى فيلم تيم روبنز الذي تحدثنا عنه، لكن ذلك التقديم الأول بجرأته وطرافته وعزم أصحابه وإقدامهم، ظل التقديم الأهم على نواقصه الفنية، ما أعطى المسرحية دلالات ومعاني إضافية ما كانت لتخطر في بال مؤلفها أول الأمر.