«مس كوشنغ: يا لها من طفلة مسكينة! - مسز جونز: (وهما تصعدان الدرج) حسناً، أنت لا يمكنك أبداً أن تسبري غور هؤلاء الذين يتّسمون بالهدوء في مظهرهم، ولن أدهش لأدنى درجة لو أنها سارت على النهج نفسه الذي سارت عليه أمها. إن لها صديقاً تبدو عليه النعمة، لا أظن أنه يلف ويدور حولها للا شيء، وقد رأيته في ساعة متأخرة من مساء أمس ثم بعد ظهر اليوم، بعد أن رجعت من مركز الشرطة... (وتواصل مسز جونز حديثها إلى أن تدخلا المنزل. مسز أولسون تصعد سلم الدور السفلي، يظهر من اليسار بحار بصحبته فتاتان وقد لف ذراعيه حول خصريهما، يسير الثلاثة ببطء عابرين المسرح)، ستارة». على هذا النحو ينتهي المشهد الأخير لواحدة من أبرز المسرحيات الواقعية والاجتماعية في المسرح الأميركي لمرحلة النصف الأول من القرن العشرين. نهاية لا شيء فيها استثنائي قبل إنزال الستارة... تماماً مثل ما حدث قبل رفعها: إننا هنا أمام شريحة من الحياة المتواصلة تُقدّم إلينا في ثلاثة فصول، مع وحدة أرسطية في الزمان والمكان، وتحديداً ضمن إطار ما مال إليه الكتاب، دائماً في القرن العشرين، من تقديم لشريحة الحياة تلك في مكان سكني واحد يجمع أنماطاً من البشر يُقدّمون بصفتهم، في مجتمعهم الصغير، كناية عن أهل المجتمع الكبير. ولما كان ما يحدث حقاً، يحدث في التراكم المتواصل، مُكوَّناً من أحداث صغيرة، تعني كل شيء في دلالات العلاقات في ما بينها، يصبح ما يُقدّم أمام أعيننا جزءاً من ذلك التراكم، وعلينا نحن معشر المتفرجين، إذ في إمكاننا تخمين ما حدث قبل رفع الستارة، لأن جزءاً منه يروى لنا في الفصول، أو من خلال ما يحدث في هذه الفصول ونراه بأم أعيننا، علينا أن نتخيل ما سيحدث بعد ذلك، وتحديداً على ضوء موقعنا مما شاهدنا... مع نهاية لا تقول لنا شيئاً محدداً، لأنها لا تخرج عن كونها ثرثرة جيران، هم هنا لكي يعلقوا على أحداث وشخصيات يعتقدون أنها، بالنسبة إليهم، مشهد يرونه، ناسين للحظة أن ما يرونه، وما نراه، يمكن أن يحدث لنا ولهم أيضاً، ليطلع غيرنا وغيرهم، يعلقون يتحسرون ويخيل إليهم أن «هذا لا يحدث إلا للآخرين». يحدث هذا، هنا، في مسرحية للكاتب الأميركي إلمر رايس، عنوانها «مشهد في الطريق» نقلها إلى العربية محمد الحديدي، وصدرت قبل ثلاثة عقود في سلسلة «من المسرح العالمي» الكويتية. ومنذ العنوان يحدد لنا الكاتب جوهر العمل: إنه مجرد مشهد مأخوذ بواقعيته الفجة في الطريق... وفي الطريق فعلاً، لأن الديكور على المسرح، في الفصول الثلاثة معاً، هو نفسه: واجهة بناية في منطقة شعبية في نيويورك، يقطنها رهط من البائسين، الذين قد يذكروننا، إلى حد ما، بأهل الحضيض لدى ماكسيم غوركي، مع فوارق كثيرة بالطبع. فنحن هنا لسنا في روسيا الحثالة البائسة ما - قبل - الثورة البولشفية، بل في نيويورك، عاصمة الحلم الأميركي، الذي ستكشف لنا المسرحية كم أنه، بالأحرى، كابوس، وكيف أن الأوضاع الاقتصادية تهيئ الناس هنا للجريمة، أمام أعين آخرين من الصعب، خارج إطار الثرثرة المعهودة، أن يعتبروا أنفسهم معنيين. إن كل واحد هنا جزيرة في إحباطاته وبؤسه... وهم معاً يبدون وكأنهم يعيشون في سجن كبير. وعلينا ألا ننسى هنا أن إلمر رايس، كتب «مشهد في الطريق» في عام 1928، أي العام السابق مباشرة لانهيار بورصة نيويورك، الذي أدى إلى انهيار الاقتصاد الأميركي ككل وإلى اختناق طبقات بأسرها من المجتمع طوال عقد تال من السنين. والحقيقة أن هذه المسرحية التي قدمت للمرة الأولى في كانون الثاني (يناير) 1929، تأتي لتقترح علينا - قبل شهور من الانهيار الاقتصادي - صورة لأميركا ترسم المشهد الحقيقي، المشهد الذي جعل الانهيار أمراً لا علاقة له بالصدفة. تنتمي «مشهد في الطريق» إلى النزعة الطبيعية في الأدب، أي إلى ذلك التيار الذي يكتفي بتقديم الحياة كما هي، من دون تزيين أو حتى تعليق، حتى وإن كانت تنتمي في سياق فكر كاتبها ونيّاته إلى نزعة تسعى إلى السؤال حول ما الذي حل بالحرية الروحية للإنسان... هذه النزعة التي أبدى رايس، في العدد الأكبر من مسرحياته السابقة على «مشهد في الطريق» واللاحقة لها، قناعته بأنها العنصر الأساس الذي يمكنه أن يكون فاعلاً في تحرير الإنسان من ضروب العبودية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي سيق إليها. والإنسان هنا، في عمل رايس، هو الإنسان الأميركي تحديداً، إنسان المدن الكبرى المنتمي إلى تلك الأقليات التي اجتمعت كلها لتبني أميركا الحلم، ثم راحت يدمر بعضها بعضاً في لعبة هبوط إلى الجحيم. طبعاً، ليس من المنطقي هنا القول إن كل هذا يمكننا أن نراه واضحاً في «مشهد في الطريق»، لكنه، بدوره، يتضح عبر تراكم يراه المرء ماثلاً في الكثير من أعمال هذا الكاتب، التي يصل عددها إلى حوالى أربعين مسرحية، أهمها ما كتبه قبل الحرب العالمية الثانية، حتى وإن كان واصل الكتابة حتى رحيله في عام 1967. من هنا، فإن الأحداث في «مشهد في الطريق» ليست كثيرة وليست مهمة في حد ذاتها، بل في دلالاتها بالنسبة إلى حياة الأشخاص الذين يتحركون أمامنا، ويزيد عددهم عن 25 شخصية، معظمهم أساس في حركة الأحداث، أو في التعليق عليها. وهذه الأحداث يؤطرها ذلك المناخ الحار الخانق الذي يدفع معظم سكان البناية إلى الجلوس خارجها قرب الواجهة، فيما ثمة أشخاص آخرون يطلون من نوافذ الشقق مشاركين، إما فاعلين أو معلقين، أو حتى مجرد متفرجين. ومنذ البداية يطالعنا بعض السكان، مثل آل جونز القساة وآل فيورنتينو الطيبين، إضافة إلى المثقف العجوز... وكل هؤلاء جيران آل مورانتس التعساء. وهم هنا يتحدثون عن السيدة مورانتس وعلاقتها بموظف شركة بيع الحليب سانكي. وسنعرف منهم أن روز ابنة السيدة مورانتس تخشى الفضيحة، لذلك تطالب أمها بأن تكون أكثر تكتماً في شكل علاقتها... فلا ترتدع الأم ما يجعل الأب مورانتس يطلق النار على زوجته وعشيقها ويرديهما قتيلين، وإذ تعود روز من المستشفى حيث أمها مسجاة قتيلة، تطلب من صديقها سام كابلان، ابن المثقف العجوز أن يتركها، بعدما أفسدت أخته العلاقة البريئة بينهما. ويبدو واضحاً هنا أن روز تقبل مصيرها، تماماً كما كانت للحظات سابقة، قد قبلت بالمصير المفجع الذي كان من نصيب والديها... وتترك المكان وكلها إيمان بأن الحب الحقيقي في حياتها، كما حياتها الحقيقية المقبلة، لن تقوم لهما قائمة إلا بعد أن تعرف نفسها حقاً... وفيما هي تغادر، تعود الحياة في البناية إلى سيرتها الأولى... في انتظار حدث جديد يصبح مضغة في أفواه الجيران... ولد إلمر رايس (1892 - 1967) في نيويورك ابناً لأسرة رايزنشتاين اليهودية، بيد أنه سرعان ما اضطر إلى تبديل اسم عائلته إلى رايس، تحسّباً لأي تمييز ضده... وهو عرف بهذا الاسم منذ بدأ الكتابة للمسرح متخلياً عن دراسته القانون. وكانت أولى مسرحياته المنشورة «قيد المحاكمة» فيلعام 1914. وهي حققت، ما إن عرضت، نجاحاً كبيراً فاق كل توقعات كاتبها وأحلامه، ما شجعه على مواصلة طريقه ليصبح لاحقاً من أبرز كتاب «غيلد ثياتر» ذي التوجه الاجتماعي اليساري، ووضعه بالتعارض مع قيم برودواي... وخلال المرحلة التالية، كان رايس من مؤسسي مشروع المسرح الشعبي ضمن إطار «مشروع المسرح الفيديرالي» الذي حل عليه سخط السلطات اليمينية بسرعة، ولم يفت لجنة النشاطات المناهضة لأميركا أن تحاسبه لاحقاً. بيد أن نشاط رايس وألمعيته المسرحية تضاءلا بعد الحرب، وبقي منه كاتب يجتر نفسه، حتى وإن واصل نضالاته السياسية والمطلبية، لا سيما ضمن إطار حركة الحقوق المدنية. [email protected]