حتى وإن كنت تملك عشرين قناة سينمائية في تلفزيونك هذه الأيام، لن تجازف ابداً بأن تشاهد، في سهرة طيبة أي فيلم من أفلامهم. فقنوات"شوتايم"وأخواتها، ودع عنك القنوات العربية طبعاً، ليست من الصنف الذي يهوى هذا"النكد"السينمائي على حد تعبير صاحب إحدى الفضائيات العربية يوم فوتح بمثل هذا الامر ذات دورة في"كان". هم هامشيون مهمشون، رحلوا جميعاً خلال العقود الفائتة... رحلوا يائسين حتى من ان يكونوا أنبياء في بلادهم. ومع هذا لا تخلو موسوعات السينما من ذكرهم والإطناب في الحديث عن افلامهم. ومعظم هذه الأفلام هو ما يشكل، اليوم، ذلك الجزء المضيء الرائع مما نسميه"تاريخ السينما البديلة أو الجادة في العالم". ولا تخلو عروض نوادي السينما من عرض لفيلم أو فيلمين لكل واحد منهم في موسم كل عام... حتى وإن كان صعباً العثور على هذه الأفلام في أسطوانات مدمجة لدى"فرجين"أو غيره... ومن هنا، إذ تقدم طوال اسابيع هذا الصيف، عشرة منهم، فما هذا سوى مساهمة في رد جميل ما إلى أهله، وفي ربط بعض تاريخ السينما التي نحب بأفلام صانعي هذا التاريخ... وهم آتون، على أي حال، من بلدان وقارات شتى ليصبوا فنهم وأفكارهم في عولمة فنية ثقافية حقيقية ليس من شيمها التخلي عن الجذور لحساب حداثة مزيفة. ذلك أن العولمة لديهم مكملة للأصالة. وإذا كنا، هنا، في هذه السطور نكتفي بهذا التقديم، فإن ما نقوله إنما سيفسر ويفصل حلقة بعد حلقة، عبر سينمائي بعد آخر، بادئين هنا بالبرازيلي غلاوبر روشا، أحد مؤسسي تيار"سينما نوفو"وكبار منظريه. بين أول أفلامه الروائية الطويلة"بارافنتو"1961 وآخرها"عمر الأرض"1980 مرّ عقدان من الزمن شغل غلاوبر روشا خلالهما عالم السينما والسياسة والفكر ايضاً، في شكل جدي. وكان من شأنه ان يواصل هذا، لو انه عاش أكثر ولم يمت بصورة مباغتة وهو بالكاد تجاوز الثالثة والأربعين من عمره. غير ان"بطل السينما الثورية"المدافع عن"فقراء البرازيل والعالم الثالث"هذا، لم يوفق في أيامه الأخيرة بقدر ما وفق عند بداياته. وليس هذا فقط لأنه قبل شهور قليلة من رحيله، حين جوبه فيلمه"عمر الأرض"? خلال عرضه في مهرجان"البندقية"بعاصفة من الاحتجاج السياسي والجمالي وفضّل المحكّمون عليه فيلماً"أميركياً"للويس مال هو"اطلانتيك سيتي"، نعت مال بالفاشي وشتم الجميع، بل كذلك لأن"عمر الأرض"نفسه بدا محيراً، سياسياً، بل متخلفاً عن كل النظريات والأفكار التي كان هذا السينمائي يدعو إليها، في كتاباته ولكن في أفلامه الرئيسة ايضاً. مهما يكن، كان من الواضح ان الموضوعة الأساسية التي حركت غضب محبي وجمهور روشا ضده، كان ما بدا عليه من"وهن ثوري"قاده الى مساندة ما رأى في ذلك الحين انه مجيء لحكم ديموقراطي في بلده البرازيل على أنقاض حكم عسكري ديكتاتوري كان قد تسبب في نفيه، قبل سنوات عدة الى خارج البرازيل، وأمضى في قمع الشعب البرازيلي. إذاً، كان الأوروبيون ينتظرون من روشا ان يظل ثورياً دائماً، أما هو فقد بدا في آخر حياته وكأنه يميل الى شتى أنواع التنازلات. متاحف الذكريات الجميلة ومع هذا فإن النقد، الأوروبي بخاصة، إذا كان قد أبدى غضبه على روشا، فإنه على الأقل لم يعد النظر في سينماه ككل. اعتبر فقط ان صاحب"جماليات الجوع"، إنما يمر في فترة انعطافية، قد تكون أوضاع الداخل البرازيلي مبرراً حقيقياً لها. ثم ان هذا النقد الأوروبي لم يفته ان تيار ال"سينما نوفو..."كله كان بدأ يحتضر منذ سنوات قبل رحيل غلاوبر روشا، إذ ما ان انقضت السنوات الأولى من سبعينات القرن العشرين، حتى كانت أفلام روي غويرا ونلسون بيريرا دوس سانتوس وغيرهما، من رفاق روشا في تأسيس ذلك التيار السينمائي الثوري الذي كان واعداً منذ بداية الستينات، صارت جزءاً من الماضي ومن متاحف"الذكريات الجميلة"بحسب تعبير جان لوك غودار، الذي كان أحد المصادر الأساس لفكر روشا وجمالياته، بل انه استخدمه ايضاً كممثل في أحد افلامه "ريح الشرق" الذي كان ضمن خط مشترك يجمع بين غودار وروشا أشبه بتأمل حول ما سمّاه النقاد يومها"الإغواء الثوري". إذاً، كان"بارافنتو"اول فيلم روائي طويل لروشا، وكان استبقه بفيلم قصير هو"السطيحة"1959، تدور"أحداثه"على سطيحة معلقة بين السماء والأرض، يشغلها شخصان بالكاد نعرف ماذا يفعلان أو يريدان. اتى هذا الفيلم القصير نوعاً من السوريالية الطليعية، وبالتالي أقرب الى ان يكون تمريناً أسلوبياً. اما"بارافنتو"، فكان من خلال تفرده في كونه سردياً كلاسيكياً نسبة الى افلام روشا الأخرى ? فيلماً نضالياً واضحاً يتناول الصراعات التي يخوضها الصيادون ذوو الأصول الأفريقية ضد البحر والطبيعة وضد التجار الذين يستغلونهم والسلطات المركزية التي لا تكف عن دعم اولئك التجار. واضح ان روشا قدم في هذا الفيلم أوراق اعتماده كسينمائي ثوري يريد ان يعبّر من خلال الصورة عن أفكار نضالية تنتمي الى ما كان سائداً في ذلك الحين... أي حين بداية ولادة العالم الثالث ونضالاته. هذه النضالات سيتابعها روشا في فيلمه التالي"الإله الأسود والشيطان الأبيض"1964، الذي ينتقل من متابعة نضالات الصيادين، الى نضالات المزارعين والرعاة في مناطق الشمال الشرقي الفقيرة والقاحلة السرتاو... لكن الفيلم ينتقل كذلك أسلوبياً من كلاسيكية خطية الى نزعة أسطورية سوريالية، يكاد شكلها الخارجي يكون شبيهاً بأفلام رعاة البقر. وفي هذا الفيلم تظهر للمرة الأولى لدى روشا - شخصية انطونيو داس مورتيس، القاتل المأجور الذي يستخدمه السادة والسلطات المركزية لقتل المزارعين المناضلين ووأد تحركهم. لكن داس مورتيس هذا، سيعود في أفلام لاحقة لروشا، ولا سيما في الفيلم الذي يحمل عنوانه اسمه"انطونيو داس مورتيس"1969 في النسخة الفرنسية على الأقل، علماً أن اسمه البرازيلي الأصل، الذي يكاد يكون منسياً اليوم هو"تنين الشر ضد القديس الذي يشفي"-، لكنه في عودته المتأخرة هذه، لن يظل شريراً وقاتلاً يعمل لمصلحة الظالمين، بل ستقوده حال وعي وتفكير عميق الى المعسكر الآخر، حيث سيصبح مناضلاً ضد الظلم... وأيضاً ضد الخرافات والطقوس التي تساعد الظالمين على مواصلة استغلالهم للشعب. ثراء التقشف بين"الإله الأسود والشيطان الأبيض"أو بحسب اسمه البرازيلي"الرحمن والشيطان في أرض الشمس" و"أنطونيو داس مورتيس"، حقق غلاوبر روشا، فيلمين قصيرين وآخرين طويلين، ولئن ظل ثاني هذين الأخيرين "سرطان" نصف مجهول لزمن طويل ولم ينل من الشهرة ما نالته أفلام روشا الأخرى، فإن الطويل الأول وعنوانه"الأرض تهتز"1967 كان الأهم والأشهر في مسار هذا الفنان، ليس تاريخياً فقط، بل جمالياً ايضاً، حتى وإن كان لا يزال على روشا ان ينتظر بعض الوقت قبل ان يبارح"الأسود والأبيض"الى الملون في سينما بدت متقشفة الشكل دائماً، إنما ثرية المواضيع وضروب الابتكارات الجمالية. في"الأرض تهتز"لدينا موضوع يكاد ينتمي الى الخيال السياسي، من حول بلد يدعى"إلدورادو"يذكر كثيراً ببرازيل اواسط ستينات القرن العشرين على أي حال يعيش أزمة سياسية حيث يحضّر الجيش انقلاباً عسكرياً لنصرة القوى الرجعية، وسحق القوى التقدمية. غير ان هذه القوى يقدمها لنا روشا، عديمة النفع غارقة في كل ضروب الديماغوجية، ما يعجزها عن التصدي للقوة العالمية التي تتلاعب بالبلد ساعية الى إبقائه متخلفاً مستغلاً... على خلفية هذا الموضوع السياسي الخالص، بنى روشا حكاية شخصية حافلة بالمواقف التي تبدو نابعة من الحياة نفسها... لا مجرد رموز سياسية أو أيديولوجية. ورسم شخصيات من لحم ودم تقول الفكرة، لكنها تقول الحياة ايضاً في خضم ذلك الصراع الثلاثي الذي يتمحور الفيلم من حوله. والحقيقة ان هذا التمفصل بين السياسي والحياتي، بين الإيديولوجي والجمالي، هو ما لفت الأنظار العالمية، منذ ذلك الحين في شكل خاص الى سينما غلاوبر روشا، ما اعاد النقاد ونخبة الجمهور الى أفلامه السابقة، طويلة أو قصيرة، وألقى أضواء واسعة ليس على سينماه وحدها، بل كذلك على تيار"سينما نوفو"كله. اما الفيلمان القصيران السابقان على"الأرض تهتز"فكانا"أمازون أمازون"1966 وپ"مارانايو"1966 ايضاً وهما عملان"كلاسيكيان"حققهما روشا بناء على طلب رسمي من الرئيس المدني سارني، صديقه، الذي كان عاد الى الحكم بعد هزيمة الانقلاب العسكري. بين العامين 1968 و1972، حقق روشا أحد أكثر أفلامه طموحاً من الناحية الفنية وهو"سرطان"الذي لم يلق تجاوباً كبيراً، على رغم الشهرة التي كانت نسجت من حول روشا بفضل اكتشاف وإعادة اكتشاف افلامه السابقة. وهو نفسه قال عن"سرطان"انه فيلم تجريبي طليعي حققه بكاميرا 16 ملم، بغية تدريب ممثليه وتقنييه في شكل افضل، على مراحلهم اللاحقة، مضيفاً انه حققه: اولاً لتلك الغاية، وثانياً للبرهان على ان ليس للسينما طريق واحد وحيد، وثالثاً لخوض تجربة تتعلق بمدى إمكان اللقطة المشهد ان تطول وتكون مقبولة لدى المتفرج، وللقول رابعاً، إن من الضروري إدخال كثير من المسرح في السينما. واضح ان الفيلم حقق هذه الغايات، ذلك انه، إذا ظل مجهولاً من جانب الجمهور العريض، فإن ملامحه الأساسية هذه ستظهر في أعمال روشا التالية، بدءاً من"أنطونيو داس مورتيس"الذي استخدم فيه روشا الألوان للمرة الأولى في فيلم روائي طويل كان استخدمها في شرائطه القصيرة. وقد فتن هذا الفيلم الحضور في مهرجان"كان"حين عرض العام 1969. وكان من بين هؤلاء ناقدة"لو موند"ايفون بابي التي بالكاد عرفت كيف تخفي حماستها حين وصفت الفيلم بأنه"مدهش في استلهامه وحريته وشاعريته وغناه. إنه فيلم يمزج بين السامي والمأسوي، ويبدو درامياً وأوبرالياً في الوقت نفسه". وذكرت بابي أن"كان"سبق ان تعرف إلى روشا وسينماه في دورتين سابقتين من خلال عرض فيلميه الكبيرين السابقين فيهما. لكن هذه المرة كانت الدهشة أقوى بكثير. عنوان مُعَولم مهما يكن، فإن ناقدة"لو موند"لم تكن الوحيدة التي تحمست لروشا، إذ نعرف ان كتّاباً وسينمائيين كباراً كانوا في ذلك الحين، وخصوصاً بعد"أنطونيو داس مورتيس"أصبحوا من معجبيه، من غودار الى فاسبندر الألماني الذي جعل أحد نماذج فيلمه"الرحلة الى نيكلاشاوزن"مستوحى منه، ومن سيرجيو ليوني الى ألبرتو مورافيا الذي كتب عنه بكل حماسة. مع"أنطونيو داس مورتيس"، صار روشا، إذاً، جزءاً أساسياً من السينما الجديدة في العالم. بل حتى صار في إمكانه ان يغض الطرف عن بعض"المبادئ المحلية"، وينطلق خارج البرازيل، مطبقاً نظرياته التي صارت الآن واسعة الانتشار على سينما تصنع في الخارج. إذ ها نحن نراه في العام الثاني 1970 في افريقيا وتحديداً في الكونغو، حيث يحقق، بإنتاج فرنسي - إيطالي مشترك فيلمه التالي"للأسد سبعة رؤوس". والحقيقة ان التجديد وپ"الأممية"يبدآن هنا منذ العنوان، الذي من المستحيل لأية ترجمة ان تفيه حقه، حتى وإن كانت هذه الترجمة العربية هي الترجمة الحرفية له. ذلك ان اسم الفيلم المؤلف من خمس كلمات مكتوب اصلاً بكلمة لكل لغة: من الألمانية الى الإيطالية فالإنكليزية فالفرنسية فالإيبيرية بين الإسبانية والبرتغالية. ومن الواضح ان روشا انما أراد بهذا التنويع اللغوي في العنوان ان يشير الى أممية القضية التي يطرحها الفيلم، وبالتالي الى اممية النضال الذي تخوضه شعوب العالم الثالث. محور الصراع هنا، في هذا الفيلم، يدور في افريقيا، الأرض التي تتصارع فيها جملة من المصالح الكولونيالية. ولتصوير هذا الصراع عمد روشا هذه المرة الى تفريغ شخصيات العمل من كل بعد سيكولوجي"لمصلحة كثافة رمزية"على الطريقة البريختية. بل ان اسلوب الفيلم يشتغل من حول شخصيات رمزية: البهيمة الإمبريالية عشيقة للعميل الأميركي، والمتواطئون آتون من بلجيكا أو من هولندا، من البرتغال أو من ألمانيا، وهؤلاء جميعاً لا يتوقفون طوال الوقت عن تقاسم"الامبريالية"التي لم تعد تعرف مَنْ سيدها الحقيقي. واضح هنا ان روشا اراد ان يقدم فيلماً بريختياً تعليمياً. وواضح ان التفاعل العام كان، معه، واضحاً ولكن... سياسياً في المقام الأول، إذ حتى وإن كان هذا الفيلم يجدد في ذلك الحين على صعيد الشكل واللغة السينمائية عبر البريختية - فإن الجانب السياسي بدا فيه طاغياً، ولكأن روشا صار مصراً أكثر وأكثر على دوره السياسي وكله استعداد للتضحية بالجانب الفني، ولا سيما الدرامي الشخصي الذي كان من سمات افلام انطونيو داس مورتيس... وفي الأحوال كافة، إذا كان"للأسد سبعة رؤوس"قد بدا يشبه شيئاً، فإنه بدا أشبه بأوبرا صينية ثورية مرت على يدي برتولد بريخت وقلمه. أثار الفيلم ضجة وكان له معجبون وأنصار بالطبع، وعزز مكانة روشا الثورية. ولكن، بالتأكيد، على حساب ما كان يسعى إليه روشا من ان يوجد لنفسه مكانة أساسية في تاريخ الفن السينمائي، خصوصاً ان نقاداً كثراً لفتوا الى ما في الفيلم من خطية ومثنوية سياسية مترحمين على ايام انطونيو داس مورتيس، حيث كان الجدل الديالكتيك عنصراً أساسياً. من هنا كان من الطبيعي لروشا ان يستعيد في فيلمه التالي"رؤوس مقطوعة"1970 علاقة سينما بشخصية انطونيو... وكذلك عالم إلدورادو الذي عاد هنا مرة أخرى ولكن هذه المرة تحت سلطة حاكم مطلق يدعى دياز... متواطئاً مع البليونير الكاليفورني برادلي. ومن جديد هنا أدار روشا في فيلمه الصراع الخالد، إنما مع تركيز أكثر على جماليات الحلم، على حساب جماليات الجوع إشارة الى مقالين سابقين له راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة. طبعاً كثر رحبوا بهذه العودة، خصوصاً ان روشا تحدث في صددها عن عودته الى قراءة شكسبير الى جانب حديثه عن بريخت. وبدا ان الميزان يعتدل حتى وإن كان كثر رأوا تكراراً لما كانوا شاهدوه في"الأرض تهتز". وإذا كان أنصار سينما روشا ازدادوا خلال تلك السنوات، فإن اعداء هذه السينما ازدادوا بدورهم. وهؤلاء ما كان عليهم إلا ان ينتظروا فيلمه التالي حتى"يثأروا"منه ومن نجاحاته اخيراً. هذا الفيلم التالي كان في عنوان"تاريخ البرازيل"وأنتج بمبادرة من السلطات السينمائية الكوبية. بدلاً من الراحة "تاريخ البرازيل"حقق في سنة 1974، وإن كان العمل عليه بدأ قبل ذلك بعامين، وهو كان محاولة شديدة الطموح لرواية تاريخ ذلك البلد/ القارة في اكثر من ساعتين ونصف الساعة. ومن هنا بدا الفيلم مكثفاً، سريعاً، خصوصاً ان التاريخ فيه يروى من طريق صوت يأتي من خارج الشاشة، وبالكاد يتواكب مع الصور التي تم جمعها ارشيفياً أو مع الشهادات التي أدلى بها علماء ومؤرخون. ولعل أجمل ما في الفيلم هو ان روشا استند في جزء كبير من روايته الى السينما البرازيلية نفسها وتاريخها، ما جعل الفيلم اشبه بتاريخ للبرازيل من طريق السينما. غير ان المشكلة الرئيسة كمنت في ان مخرجنا حين وصل آخر فيلمه الى السنوات الأحدث، بدا وكأنه يهادن السلطة القائمة، ناسياً كل طروحاته حول الإمبريالية وأعوانها والنضال ضدها. ومن هنا لوّح خصوم روشا المعهودون بالسؤال الحاد: هل دجّن غلاوبر روشا؟ الحقيقة ان الأفلام الثلاثة التالية التي حققها روشا وهي على التوالي:"كلارا"1975 وپ"دي كافلكانتي"1977 وپ"جورج آمادو في السينما"1977، بدلاً من ان تجيب سلباً عن هذا السؤال، بدت وكأنها تؤكده. الفيلم الأول أتى روائياً طويلاً من إنتاج فرنسي/ إيطالي، استخدم فيه روشا، لمرة نادرة، ممثلين محترفين من أوروبا: جولييت برتو وطوني سكوت بين آخرين. لكن البطولة اتت فيه معقودة لمدينة روما، التي بدا الفيلم اشبه بتحية لها. ولكن تحية غامضة، كان من الصعب قبولها لولا اسم المخرج وسمعته. على العكس من هذا كان"دي كافالكانتي"، الذي لم يفت نقاداً أن ينظروا إليه على انه الأجمل بين افلام روشا كلها... حتى وإن كان بدا، لوهلة، شديد البعد عن تلك السينما. فالفيلم ولدت فكرته إثر موت الرسام المعروف دي كافالكانتي. إذ ما إن قرأ روشا خبر موت الرسام حتى التقط كاميرا ليصور الجنازة ومقدمات الموت في علاقة بفن الراحل نفسه. وإلى هذا السياق ينتمي على أي حال الفيلم التالي الذي كان، في حقيقته، فيلماً تلفزيونياً من إنتاج برازيلي عن كاتب البرازيل الأكبر جورج آمادو، تضمن اساساً حواراً طويلاً وصريحاً معه عن أعماله وحياته وموقفه المتأرجح من الحزب الشيوعي البرازيلي والحركة اليسارية في شكل عام. في سنة 1980، وبعد ثلاث سنوات من تحقيق فيلم آمادو، حقق روشا في مناطق برازيلية عدة منها ريو دي جانيرو وسلفادور وبرازيليا، فيلماً ما كان هو ولا أي احد يعتقد انه سيكون فيلمه الأخير. هذا الفيلم هو"عمر الأرض"، الذي تحدثنا أعلاه عن إخفاقه في إقناع النقاد والمحكمين في مهرجان البندقية، ما أثار المخرج فصبّ جام غضبه على الفائز لويس مال، ومع هذا قد يصح اليوم ان نقول ان محكمي البندقية ظلموا روشا فعلاً... وعلى الأقل ان شاهدنا"اطلانتيك سيتي"فيلم لويس مال الفائز في وقت متزامن مع"عمر الأرض". فصحيح ان هذا الأخير قد لا يصمد في المقارنة مع افلام سابقة لروشا، لكنه يفوق فيلم مال التجاري والتقليدي قوة وتعبيراً. ومن هنا نفترض ان لجنة التحكيم لم تقارب بين فيلم روشا وفيلم مال، بقدر ما قارنت بين فيلم روشا وأفلامه القديمة لتستنتج انه يبدو متراجعاً وأشبه بمن يكرر نفسه ولا يعرف ماذا يمكنه ان يقول بعد كل الأمور الرائعة التي قالها في أفلامه الأولى. فهنا، في"عمر الأرض"محاولة للحكي عن البرازيل، مجدداً، وعن أوضاعها وصراعاتها، ولكن في لغة تكرارية تحاول ان تروي ما لا يروى. كان واضحاً ان روشا بات في حاجة إلى راحة ما، يحاول خلالها ان يعبر مرحلة انتقالية من حياته، ريثما يتمكن من استعادة رونقه القديم وقدرته على التجديد. كل متابعي سينماه رأوا هذا. ومن هنا، حتى وإن لاموه على موقفه في"البندقية"غفروا له، وراحوا ينتظرون إطلالته التالية... لكنهم ما كانوا، طبعاً، يقدّرون انه لن تكون هناك لا إطلالة تالية... لأن روشا سرعان ما رحل حزيناً، مريضاً، يتذكر مجده القصير ونضالاته الصاخبة، متسائلاً عما إذا كان كل هذا سيثمر ذات يوم. هكذا تكلم روشا هناك هدف وحيد هو ازاحة سينما الاستهلاك الأميركية، الاوروبية والبرازيلية، لإبدالها بسينما جدلية. نحن... نحن متخلفون، ونحن لا نحب لا الجوع المطلق ولا الامراض المزمنة التي نحملها في أعماقنا منذ ولادتنا. مهما يكن فإن تعبير"سينما سياسية"انما هو بضاعة رخيصة الثمن، اما نحن، معشر السينمائيين البرازيليين، فإننا أكثر انشغالاً بموتنا وبإنتاجنا، من أن نسمح لأنفسنا بإضاعة وقتنا في ذلك المهرجان الديماغوجي العالمي.... إن شركات"فوكس"و"بارامونت"و"مترو"هي أعداؤنا. ولكن كذلك ايزنشتاين وروسليني وغودار، هم بدورهم اعداؤنا، لأنهم يسحقوننا. تصريح إلى مجلة"بوزيتيف"آذار/مارس 1970. إن أميركا اللاتينية لا تزال مستعمرة كولونيالية، وما يفرق بين كولونيالية الأمس وكولونيالية اليوم، إنما هو الشكل الأكثر تعقيداً الذي بات يسم مستعمر اليوم.... وإننا لنفهم ما ينتج عن هذا من جوع واضح أن الاوروبيين وحتى البرازيليين في معظمهم الساحقة لا يفهمونه. بالنسبة الى الاوروبي هذا الجوع ليس سوى سوريالية استوائية غرائبية. أما بالنسبة الى البرازيلي فإنه مجرد عار قومي. إنه لا يأكل لكنه يخجل من قول ذلك. ثم انه، بخاصة لا يعرف من أين يأتي هذا الجوع. أما نحن معشر السينمائيين الذين نحقق أفلاماً قبيحة وكئيبة، أفلاماً يائسة مملوءة بالصراخ، لا يكون العقل - بالضرورة - هو الأعلى صوتاً فيها، فإننا نعرف أن الجوع لن نشفى منه عبر مخططات ومشاريع نصائح في الدواوين الوزارية، وأن التكنيكولور، لا يمكنه أن يخفي الى الأبد كل ضروب أوراقه... من المقال الشهير"جماليات الجوع"- 1966 ان النظم الثقافية السائدة، سواء أتت من اليسار أو من اليمين، تعيش أسيرة عقل محافظ. وما اخفاق اليسار في البرازيل سوى نتيجة هذا الشر الاستعماري. اليمين يفكر تبعاً لعقلية النظام السائد ومفهوم التطور. وفي هذا الاطار تبدو التكنولوجيا، مثالاً أعلى - انما واهن القيمة - لسلطة لا تملك أي ايديولوجية أخرى سوى سيطرة الاستهلاك على الانسان. أما جواب اليسار - وهنا أعطي البرازيل كمثال ساطع على ما أقول ? جواب اليسار لم يتعد كونه أبوياً فوقياً، مرتبطاً بعلاقة أساسية بالموضوعة المركزية للصراعات السياسية: موضوعة"الجماهير الفقيرة". إن"الشعب"هو الأسطورة التي لا تفتأ البورجوازية تلجأ اليها. وبهذا تتحول روح الشعب الى روح البورجوازية في نظراتها الى الشعب. من مقال عنوانه"جماليات الحلم"- 1971 سينما المستقبل سوف تكون سينما"ايديوغرامية"- أي سينما فكرية -. ستكون بحثاً حول الدلالات الرموز. وللوصول الى هذا البحث لن يكون أي علم من العلوم كافياً.. وانما سيحتاج الأمر سيرة معرفة وتعرف على الذات، يشمل الوجود كله وانخراط هذا الوجود في الواقع. والاسطورة هي"الفكرة"الاولى في هذا السياق.. وهي تخدمنا ? ونحتاج اليها -، كي نعرف أنفسنا بواسطتها، ونتعرف على بقية الأمور. ومن هنا فإن الاسطورة، وكل ايديولوجيا بالتالي، تصبح خطاً فكرياً، بحيث ان الاشكال الأساسية للتعبير الثقافي والجمالي، لن تحيل باستمرار إلا الى الاسطوريات. وبعد ذلك فقط، سيكون في امكاننا أن نطور أشياء أخرى، لكن هذا لن يكون الخطوة الجوهرية بالتالي. ان السوريالية، هي بالنسبة الى شعوب أميركا اللاتينية، صنو للنزعة الاستوائية. ومن هنا نجد أن ثمة سوريالية فرنسية وأخرى ليست فرنسية على الاطلاق. وبين اندريه بريتون وسلفادور دالي هناك هوة عميقة. والسوريالية شأن لاتيني أميركي. لوتريامون اورغواياني الأصل. وسربانتس كان أول السورياليين في تاريخنا. نيرودا يتكلم دائماً عن السوريالية القويمة. وهذه السوريالية القويمة ليست سوى خطاب العلاقة بين الجوع والنزعة الغيبية الصدفية. بالنسبة الينا سورياليتنا ليست سوريالية الحلم، بل سوريالية الواقع. في هذا المعنى لويس بونيال سوريالي، وأفلامه المكسيكية هي أول الافلام الاستوائية والانثروبولوجية.... من هنا فإن تعبير السينما الفكرية يعني ما يلي: انها شكل متطور ومعمّق من الوعي، هي الوعي نفسه في علاقته المباشرة مع اقامة الشروط الثوروية. والحال أن ذكاء النقد الفرنسي، حتى وإن كان متعالياً دائماً. وأكاديمياً في بعض الاحيان، هو الذي انقذ السينما من تفاهة كبرى يراد اغراقها الدائم فيها. في هذا الاطار أجد أن بازان مؤسس"كراسات السينما" أكثر ذكاء بكثير من غويدو آرسناركو ناقد يساري ايطالي، حتى ان كان روسليني وفسكونتي وانطونيوني ايطاليين. ومع هذا فإن نقد بازان المميز لم يكوّن سوى جان - لوك غودار، حتى وإن كان لا يزال في وسع فرانسوا تروفو أن يكون سينمائياً كبيراً، شرط أن تخوض في لعبة التحليل النفسي. إن هناك سينمائيين فرنسيين أتابعهما مع كثير من الاهتمام وهما آلان رينيه وجاك ريفيت. ولكن طالما ان السينما الفرنسية تبقى محصورة في نطاق العقل، ستظل سينما محدودة. والأسوأ من هذا كله ان هذا العقل عقل مناهض للجدلية. ثم لا ننسين هنا ان غودار سويسري - أي ينتمي الى شعب متخلف النمو - سحقه بلد مجاور - وبروتستانتي روشا كان بدوره بروتستانتيا وهو غالباً ما قال ان هذا ما يقرّبه كثيراً من غودار. مهما يكن فإن غودار فنان واعظ خجول، اعتاد ان يفجر نفسه كيلا يموت جوعاً. من مقال عنوانه "استوائية، انثروبولوجية، اسطورة وفكر"- 1969. كل شيء واضح كل الوضوح: ان ما يتعين تكثيفه هو اتحاد المستقلين في وجه الاحتكار الأميركي - المعركة الاولى في هذا الصراع كانت معركة داخلية، هذا"الشانشاده"أي القوى الداخلية المرتبطة بذلك الاحتكار. أما المعركة الثانية فإنها أكبر... انها صراع مساو لبقية الصراعات التي تخوضها الصناعة البرازيلية. واليوم أكثر من أي يوم مضى، يبدو هذا الصراع بالنسبة الينا، اداة اساسية في ترسيخ التطور الثقافي وفي النضوج السياسي لشعب يحتاج الى الشعار القائل:"السينما لنا"، كما يقول آخرون"البترول لنا". وهنا يكمن الواقع الذي يحدو الى القول إن البورجوازية الوطنية تحتاج الى مساندة المستقلين، أكثر مما تحتاج الى الانتاجات المشتركة مع الخارج. فالسينما هي، وأكثر من الصحافة بكثير، القوة القادرة على ترسيخ الافكار الجديدة في البرازيل: أفكار الاستقلال الاقتصادي والسياسي والثقافي في وجه الاستغلال الامبريالي .... فإذا ما عمدت الحكومة الاتحادية، عندنا، الى الاستجابة للاحتياجات الضرورية للمستقلين، سيكون من المؤكد تعاظم السينما البرازيلية حتى تفرض نفسها في العالم أجمع... وخلال فترة من الزمن يسيرة. ان ثمة اليوم عندنا قلقاً فنياً، وشجاعة ذهنية، وتقنيين ماهرين كفوئين: وهناك، بصورة خاصة، ذلك الذي لم يكن ثمة مثيل له في أي سينما أخرى من سينمات العالم:"الشبيبة". من كتاب"نظرة نقدية الى السينما البرازيلية".