رجلان عصاميان، ومسيرتان سياسيتان متشابهتان بامتياز، لكنهما انتهتا الى صدام، تدفع ثمنه مدغشقر. الرئيس مارك رافالومانانا واندري راجويلينا رئيس البلدية المقال للعاصمة انتاناناريفو، يخوضان حالياً معركة سياسية طاحنة، وقودها الشعب واستقرار الجزيرة التي شهدت منذ استقلالها عام 1960 عن فرنسا البلد المستعمِر سابقاً، سقوط ثلاثة انظمة في اضطرابات مماثلة. بعد إغلاق محطتيه للتلفزيون والإذاعة في كانون الاول يناير الماضي، إثر بث حديث لخصم رافالومانانا الرئيس السابق ديدييه راتسيراكا المنفي في باريس، قاد راجويلينا تظاهرات واحتجاجات ضد رئيس البلاد، ادت الى مقتل ما لا يقل عن 125 شخصاً واصابة المئات. وأعلن راجويلينا انه سيدير شؤون البلاد والوزارات"الى ان تتشكل حكومة انتقالية"، متهماً الرئيس بال"الديكتاتورية"وانتهاك حقوق الملغاش، وبقمع وسائل الإعلام، فيما رد رافالومانانا متمسكاً بمنصبه، كما اقال رئيس البلدية. يحلو لموقع على الانترنت موال لراجويلينا ان يتحدث عن"ثورة برتقالية"، ويُعيب خصوصاً على رافالومانانا اقدامه على شراء طائرة رئاسية جديدة ب60 مليون دولار، ما يشكل 70 في المئة من موازنة الرئاسة. صحيح ان فعلة رافالومانانا مشينة، في بلد يُقدّر"البنك الدولي"ان 70 في المئة من سكانه يعيشون بأقل من دولار واحد في اليوم، وحيث يعاني 50 في المئة من الأطفال دون الثلاث سنوات من نقص في الغذاء. لكن هل ان اغلاق محطتي راجويلينا يبرر دعوته الشعب الى الثورة واسقاط الرئيس، في خطاب شعبوي يهدد بإشعال حرب أهلية؟ وكيف"يرتجل"راجويلينا مسيرة الى القصر الرئاسي، مدركاً على الأرجح ان قوات الأمن ستطلق النار على المتظاهرين، ما ادى الى مقتل حوالى 30 منهم؟ والواقع ان راجويلينا استفاد من حال الاستياء العام في البلاد، جراء الأوضاع المعيشية السيئة وارتفاع اسعار المواد الغذائية وانتشار الفساد والرشوة، وتركز الثروة في يد قلة من رجال الأعمال، بينهم رافالومانانا. وكان رافالومانانا حكم بلداً منقسماً سياسياً ومدمراً اقتصادياً، لكنه فتحه امام الاستثمارات الأجنبية وحسّن البنية التحتية والخدمات الصحية والتعليمية. لكن الإصلاحات الاقتصادية التي طبقها وسّعت الهوة بين الأغنياء والفقراء، كما أنه اثار خيبة شعبية، بعدما استغل منصبه ليُقحم شركته للأغذية"تيكو"وهي الأكبر في البلاد، في كل قطاعات الحياة الاقتصادية، كما نزع الى التسلط، فركّز السلطات بين يديه، وعزز الحكم الرئاسي في البلاد. ويعود السبب الرئيسي للامتعاض الشعبي من رافالومانانا، الى الاتفاق مع شركة"دايوو لوجيستيكس"الكورية الجنوبية التي كشفت عنه صحيفة"فايننشال تايمز"البريطانية عام 2008. وينص الاتفاق على استغلال 1,3 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، لصناعة زيت النخيل وانتاج الذرة، لتصدير نصفها الى كوريا الجنوبية. وشروط العقد مجحفة، اذ يتضمن ترخيص استثمار لمدة 99 سنة بلا مقابل، فيما تتعهد الشركة العمل على رفع قيمة الأرض، واستثمار 6 بلايين دولار في البنية التحتية المحلية خلال خمس سنوات، إضافة الى توفير ما لا يقل عن 70 الف فرصة عمل. وتأمل"دايوو"في ان توفر هذه الأراضي التي تشكل نصف مساحة الأراضي الزراعية في مدغشقر، والتي تعادل مساحتها نحو نصف مساحة بلجيكا، الذرة لنصف سكان كوريا الجنوبية، وان تضمن الأمن الغذائي لسيول التي تعاني من قلة الأراضي الزراعية والتي تُعتبر رابع اكبر مستورد للذرة في العالم 11 مليون طن سنوياً. لكن"فايننشال تايمز"اتهمت الشركة الكورية بممارسة"الاستعمار الجديد"، خصوصاً ان الملغاش يقدسون أرض اجدادهم التي انتهكتها الشركة الكورية الجنوبية. وكان راجويلينا انتقد المشروع بشدة، ما منحه دعم سكان الريف حيث يخشى المزارعون إرغامهم على مغادرة اراضيهم من دون تعويضهم في شكل مناسب. والمفارقة ان مسيرتي نجمي الصراع الحالي، متشابهتان. فرافالومانانا الاميركي الهوى عمد عام 2001 الى تعبئة الشارع ضد الرئيس السابق ديدييه راتسيراكا الذي حكم البلاد 23 سنة بدعم من فرنسا، لفرض فوزه في الانتخابات، بعد أزمة سياسية استمرت ثمانية شهور، كما ترأس بلدية انتاناناريفو سابقاً، بعدما كان يبيع اللبن على دراجته الهوائية. اما راجويلينا، فبدأ صعوده بتنظيم حفلات ساهرة ناجحة في فنادق العاصمة، ما دفع احدى المجلات الى اختياره رجل اعمال العام 2001، وهو لقب سبقه اليه رافالومانانا. وشكل فوز راجويلينا 34 سنة كمرشح مستقل برئاسة بلدية انتاناناريفو عام 2007، اول هزيمة جدية يُمنى بها رافالومانانا، فوضع نصب عينيه الفوز بالرئاسة، على رغم ان الدستور ينص على ضرورة ان يبلغ الرئيس 40 سنة على الأقل. ودفع الصعود السريع لراجويلينا، الصحافة الى ان تلقبه"تي جي في"، في اشارة الى القطار السريع في فرنسا. وقال فيليب هوجون مدير الأبحاث في"مؤسسة العلاقات الدولية والاستراتيجية"في باريس ان احداث مدغشقر لم تفاجئه. وأضاف ان"راجويلينا حاول تكرار ما قام به رافالومانانا عام 2001"، معتبراً انه"عرف كيف يستغل السخط الشعبي، للقيام بانقلاب لفظي". وأشار الى"التشابه بين الرجلين. كلاهما بروتستانتي، ويأتيان من خلفية اجتماعية ثرية وينتميان الى عرق ميرينا المهيمن على الحياة السياسية في البلاد. انهما متشابهان، لديهما الوجه ذاته. انهما رأسماليان يؤمنان بالمال". فهل يطيح"قطار"راجويلينا ب"محطة"رافالومانانا في القصر الرئاسي... ويقود البلاد الى الهاوية؟