جرت العادة في تركيا أن تطغى أخبار زيارة رئيس الوزراء الى واشنطن والبيت الأبيض على بقية الأجندة الإخبارية، فأميركا هي الحليف الأهم والأقوى والأقدم. لكن لقاء رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان الرئيس الأميركي باراك أوباما في واشنطن لم يحظ بهذا الاهتمام لسببين الأول هو انتهاء الخلافات التي كانت بين البلدين في عهد الرئيس جورج بوش ومرور اللقاء في جو من التفاهم، والثاني وصول نبأ مقتل سبعة جنود أتراك على يد حزب العمال الكردستاني، وهو الخبر الذي كان يمكن أن يمر مرور الكرام لولا انه جاء بعد ستة أشهر من وقف الحزب هجماته الدامية ونقل الحكومة مشروع الانفتاح الديموقراطي لحل القضية الكردية الى البرلمان إيذاناً بانطلاقه. صورة أكدت من جديد أن نجاحات تركيا في سياساتها الخارجية لن تغنيها عن الحاجة الى تحقيق نجاح مماثل ومهم في الداخل، وتحديداً ما يتعلق بالقضية الكردية التي باتت الآن، وبعد حظر حزب المجتمع الديموقراطي الكردي أكبر خطر يهدد شعبية حكومة أردوغان وتفردها بالسلطة. بعد الثورة الكبيرة التي حققتها حكومة رجب طيب أردوغان في مجال السياسة الخارجية بات من السهل على كثير من المحللين السياسيين تخمين رد فعل أنقرة على أي حدث سياسي دولي. فوزير الخارجية أحمد داود أوغلو ومن خلال نظرياته التي وضعها ومن خلال إفساح الزعيمين عبدالله غل وطيب أردوغان المجال أمامه لتنفيذ تلك النظريات من دون تردد أو عرقلة، استطاع صياغة هوية واضحة المعالم والأهداف للديبلوماسية التركية، ومع تكرار تلك السياسات في السنوات الخمس الأخيرة وثبات أنقرة عليها، ودعت الديبلوماسية التركية سياسات المساومة والحياد السلبي والانكماش على الذات التي كانت سائدة سابقاً. وبات موقف أنقرة واضحاً وثابتاً من قضايا إيران وسورية والسلام في الشرق الأوسط وغيرها. وأصبح من الصعب على أي محلل سياسي أن يتوقع مفاجآت في هذه السياسات. فليست تركيا اليوم هي تلك التي لم تر حرجاً في مساومة واشنطن على ثمن إغلاق خط نفط كركوك - جيهان العراقي للضغط على حكومة صدام حسين، أو إغلاق الحدود مع العراق لإحكام الحصار عليه. أو تلك التي سعت لعلاقات مع إسرائيل من أجل كسب دعم اللوبي اليهودي في واشنطن أو تلك التي تكتفي بترديد بيانات ديبلوماسية تصف العمليات الانتحارية أو الاستشهادية الفلسطينية إرهاباً فيما تصف العمليات الإسرائيلية في الضفة وغزة بالعنف المفرط. وعليه فإن أحداً لم يكن يتوقع حدوث أي مفاجأة في لقاء أوباما أردوغان، فيما عدا خلو برنامج الزيارة وللمرة الأولى من لقاء جماعات اللوبي اليهودي في أميركا بعد أن شاب اللقاء الأخير بين أردوغان وتلك الجماعات في أيلول سبتمبر الماضي في نيويورك توتر وخلاف كبير على خلفية الملف النووي الإيراني والموقف من حماس - علماً بأن برنامج زيارة أي رئيس وزراء تركي الى أميركا لم يخل في العقدين الماضيين من لقاء جماعات اللوبي اليهودي هناك. امتد اللقاء مع أوباما في البيت الأبيض حوالي ثلاث ساعات تخللها غداء عمل، ولقاء ثنائي على انفراد بحضور المترجمين تم تخصيصه لبحث بعض المسائل الدقيقة المتعلقة بالملف الإيراني عموماً، وهو لقاء مهم، خصوصاً أنه على رغم نفي طهران المتكرر حاجتها الى وساطة تركية مع واشنطن، فان زيارة مسؤول الملف النووي الإيراني سعيد جليلي الى أنقرة في زيارة لم يفصح عنها سلفاً قبل يومين فقط من مغادرة أردوغان الى واشنطن، أضفت على هذا اللقاء الخاص بين أوباما وأردوغان أهمية بالغة. وفي ما يتعلق بملفات افغانستانوإيرانوالعراق وسورية، فأن هناك تفاهماً بين أنقرةوواشنطن على أن الدور الذي تقوم به تركيا في تلك الملفات لا يهدد المصالح الأميركية، بل تُبقي تركيا باباً خلفياً يمكن للسياسة الأميركية أن تلجأ إليه في حال فشل سياساتها التي ترتكز على استخدام القوة والتهديد. فتركيا لا تدعو الى دعم طالبان في أفغانستان ولا تدعو المجتمع الدولي الى الاعتراف بإيران كقوة نووية، لكنها ترى أن من حقها أن يكون لها سياستها الخاصة التي تنطلق من خبرتها ودرايتها في شكل أفضل ربما بخصائص وثقافة الشعبين الأفغاني والإيراني. ومن خلال تجربة السنوات الخمس الماضية يتضح أن سياسات تركيا القائمة على التعامل مع الدول من هذا المنطلق كانت أكثر نجاحاً في تحقيق بعض الأهداف من فلسفة استخدام لغة القوة والتهديد، وأبرز مثال على ذلك ما تم تحقيقه بين أكراد العراقوتركيا بعد أن تخلت أنقرة عن سياسة التهديد العسكري لتلك المنطقة وبدأت تتعامل مع أهلها وقياداتها السياسية ككيان سياسي وثقافي واقتصادي له هويته وخصائصه ومصالحه. نجح أردوغان، إذاً، في إعادة الدفء الى العلاقات مع واشنطن بعد حقبة من التوتر شابت العلاقات في عهد الرئيس جورج بوش، ليس بالتخلي عن سياسات بلاده أو تغييرها وانما بالثبات عليها وإظهار بعد نظر في الاستراتيجية التي تضعها تركيا لمستقبل المنطقة والتي تقوم على أهداف بعيدة المدى تخدم تنمية المنطقة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، ولا تنغمس في سجالات محلية أو ضيقة، الهدف من ورائها إثبات قوة أو فرض رأي قد لا يخدم بالضرورة إلا مصلحة صاحبه. أكراد تركيا والتحدي الأكبر على أن نظريات داود أوغلو التي ترسم لتركيا دوراً لا حدود لطموحاته في المنطقة الممتدة من وسط آسيا مروراً بالقوقاز فالشرق الأوسط وصولاً الى البلقان، تستند في أساسها الى تماسك داخلي في تركيا في السياسة والاقتصاد. وعلى رغم نجاح تركيا في إصلاح اقتصادها فأن القضية الكردية تبقى العقبة الأهم ? يليها في الأهمية ملف خصوصية العسكر في الحياة السياسية - أمام تحقيق تركيا هذا التماسك، ولعل أكراد تركيا أدركوا هذه الحاجة الماسة لتركيا لحل القضية الكردية في الوقت الراهن من أجل التركيز بقوة أكبر على دور تركيا في الخارج، فرفعوا سقف مطالبهم اعتقاداً منهم بأن الفرصة قد جاءتهم وانها قد تكون الأخيرة، وأن صانع القرار في الحكومة مضطر الى تقديم أكبر قدر من التنازلات من أجل حسم هذا الملف بأسرع وقت، وهو تقدير خاطئ وخطير في الوقت نفسه قد يضيع على الأكراد وعلى تركيا معاً فرصة ذهبية لحل هذه المشكلة العالقة منذ نحو ثمانين عاماً. فمن الإنصاف القول إن حكومة حزب العدالة والتنمية حاولت التقدم خطوات على طريق حل القضية الكردية منذ سنوات، لكنها اصطدمت بتعنت عسكري كاد أن يطيح بها من خلال خطط سرية للانقلاب عليها تتكشف اليوم من خلال قضية ارغاناكون، ناهيك عن القضية التي رُفعت ضد الحزب أمام المحكمة الدستورية والتي نجا منها بأعجوبة. لذا فأنه من الإجحاف القول إن أردوغان لم يفعل شيئاً للقضية الكردية حتى عام 2008 لأن انشغاله بتثبيت أقدام حزبه والدفاع عنه كان أولوية. لكن الآن ومع إنجاز هذه المهمة، وزيادة قوته وشعبيته بعد انتخابات 2007 البرلمانية، وبعد شل حركة تنظيم ارغاناكون العسكري والأمني الذي بات واضحاً انه استغل القضية الكردية والقتال ضد حزب العمال الكردستاني لتقوية نفوذه والضغط على الحكومات، ومع تحسن العلاقات مع أكراد العراق، ودعم واشنطن وأوروبا لحل سياسي للقضية الكردية في تركيا والاتفاق على ضرورة تحييد العنف والشدة التي يمثلها حزب العمال الكردستاني، فأن الظروف تبدو ملائمة لبدء العمل على حل القضية الكردية، علماً أن عملية الحل ستستغرق سنوات قد تطول بسبب الآثار النفسية والاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي نشأت عن المعالجة الخاطئة للموضوع وتناوله من زاوية أمنية بحتة طوال العقود الماضية. من هنا فأن حديث وزير الداخلية بشير اطالاي في البرلمان عن الهدف من مشروع الانفتاح الديموقراطي كان مهماً للغاية، فهو ركز على نقطتين اثنتين الأولى أن الهدف من المشروع هو وقف العنف وتحسين سجل الديموقراطية في تركيا، وهو أمر غاية في الأهمية لأن ما لا يمكن قبوله تحت تهديد السلاح يمكن مناقشته في حال ألقى الحزب الكردستاني سلاحه، وهو ما لا يريد البعض أن يدركه. أما النقطة الثانية فهي قول اطالاي إن مسيرة الانفتاح الديموقراطي لن تكون محدودة بزمان أو محصورة في قوانين محددة أو شكل معين لحل جاهز بل ستكون قابلة للتغير والتطوير مع الزمن، وهو أيضاً أمر مهم، لأنه يحول دون رهن القضية الكردية لحل سريع أو موقت تفرضه الظروف الراهنة، ويفسح المجال لجميع أشكال الحلول والاحتمالات التي قد تفرزها التطورات مستقبلاً، وهو ما يعني ? لمن يريد أن يقرأ ما بين السطور ? أن الحل قد يبدأ الآن تدريجاً من خلال إعطاء الأكراد الحقوق الثقافية، لكن لا يمكن أحداً التنبؤ من الآن في الشكل النهائي لحل القضية الكردية، ويجب ترك ذلك الباب مفتوحاً للأجيال القادمة مع الثقة بأن الحوار الديموقراطي كفيل عبر الزمن بإيجاد حل يرضي الجميع. وعلى سبيل المثال فأن الطرح الفيديرالي قد يبدو بعيداً ومستبعداً اليوم، ولكن بالمقدار نفسه الذي كان فيه الحديث قبل عشر سنوات، عن اعتراف بالهوية الكردية أو السماح بإنشاء قنوات كردية في تركيا وهو ما يحصل اليوم. ومن المهم أيضاً الوقوف على الخطوات المهمة التي ألقاها حزب العدالة والتنمية خلال السنوات الخمس الماضية في هذه القضية، فهو الذي دفع الدولة التركية للاعتراف بعد سبعة عقود بوجود قضية كردية، وهي نقطة تحول سياسية ونفسية مهمة، وهو ما كسر حاجز منع الهوية الثقافية واللغة الكردية في مؤسسات الدولة من خلال إنشاء قناة تلفزيونية حكومية رسمية ناطقة بالكردية، ونقل هذه القضية الى البرلمان للمرة الأولى في ترايخ الجمهورية التركية ناهيك عن الثورة التنموية والاقتصادية الكبيرة التي حصلت في محافظاتجنوب شرقي تركيا، وهي جميعها خطوات تشير الى عزم الحكومة على حل القضية الكردية وكسب ثقة الشارع الكردي. حزب التهرب من المسؤولية وعلى رغم تأكيد حزب العدالة والتنمية الحاكم أنه ضد سياسة حل الأحزاب وإعلانه أسفه الشديد جراء قرار المحكمة حظر حزب المجتمع الديموقراطي الكردي، إلا أن حزب العدالة والتنمية لم يفعل أي شيء عملي لتجنيب تركيا هذا الأمر، إذ كان في إمكانه إجراء تعديل على بعض مواد الدستور لمنع عملية حظر الأحزاب على يد المحكمة، واستبدال تلك الآلية بمعاقبة الشخص أو النائب الذي تثبت عليه تهمة دعم العنف أو العمل المسلح، لكن الحزب الحاكم وقف يتفرج. كما انه من المستبعد أن تكون المحكمة الدستورية قد قصدت هذا التوقيت لإصدار حكمها بحظر الحزب تلبية لضغوط عسكرية أو لتضييق الخناق على الحكومة التي لم تفعل شيئاً لتجنب الأمر، إذ أن المحكمة أبدت منذ رفع القضية قبل عامين تفهماً كبيراً لظروف تركيا السياسية وعملت على تأجيل البت في القضية لأكثر من عامين لإفساح المجال أمام البرلمان لإجراء تعديلات دستورية على قانون حظر الأحزاب، ولو أن توقيت الحكم كان يستهدف الإضرار بالحكومة أولاً لشهدنا سجالاً على الأقل، بين القضاة الذين يشاع أن بينهم من هم قريبون من حكومة أردوغان، كما حدث سابقاً في قضية حظر حزب العدالة والتنمية الحاكم والتي انتهت بإثبات تهمة العمل ضد النظام العلماني لكن من دون أن يؤدي ذلك الى حظره بسبب عدم اكتمال نصاب الأصوات اللازمة لذلك ? لكن قرار حظر الحزب الكردي صدر بالإجماع وبعد فترة قصيرة من المداولات استغرقت أربعة أيام فقط. ومن المهم هنا الإشارة الى تصريحات الرئيس عبدالله غول - الذي كان أيضاً بين من سعت المحكمة الدستورية لمحاكمتهم ضمن محاولة حظر حزب العدالة والتنمية ? التي حمل فيها قيادات حزب المجتمع الديموقراطي مسؤولية حظر الحزب ولم ينتقد قرار المحكمة الدستورية من قريب أو بعيد. لذا فأن القول بأن قرار المحكمة جاء ليستهدف حكومة أردوغان ومساعيها عن عمد أمر قد يظهر منطقياً لكنه يفتقد الى أي دليل، خصوصاً أيضاً أن الجيش غارق في مشاكل مواجهة تهم العمل على التحضير لانقلاب ضد الحكومة، وقد أظهرت الأدلة التي حصل عليها المدعي العام في هذا الشأن أن أكثر الوثائق حفظاً وحماية داخل المؤسسة العسكرية باتت مكشوفة ويمكن تسريبها، وأشرطة تسجيل مكالمات الجيش السرية التي تتحدث سلباً عن الحكومة يتم تداولها علناً الآن عبر الانترنت. لذا، فمن المستبعد أن يجرؤ أحد في هذه الظروف داخل المؤسسة العسكرية على مغامرة جديدة. وقرار حظر حزب المجتمع الديموقراطي جاء من خلال توافق بين جميع أركان الدولة حكومة وعسكراً وقضاء ولا نبالغ إذا أضفنا الى ذلك إرادة الحزب الكردي نفسه ومساعي حزب العمال الكردستاني. فمن جانب أركان الدولة فأنها باتت ترى بأن الحزب لم يستغل فرصة وجوده في البرلمان للعمل على أنه ممثل سياسي للأكراد يمكن معه حل القضية الكردية سياسياً من دون اللجوء الى العنف، لكن الحزب تهرب من هذه المسؤولية من خلال إشارته دوماً الى أن أوجلان هو من يمثل الأكراد وأن الحكومة يجب أن تتفاوض معه هو، ولم يظهر أي تأثير للحزب وقياداته على مسلحي حزب العمال الكردستاني، بل التأثير كان دائماً بالعكس لمصلحة تنفيذ توصيات وخطط الحزب المسلح في تركيا عبر قنوات حزب المجتمع الديموقراطي. وقد كُشفت أكثر من خلية داخل حزب المجتمع تعمل بتعليمات تصلها من شمال العراق حيث قيادة الحزب الكردستاني، كما أن الاحتفالات التي نظمها حزب المجتمع في استقبال العائدين من حزب العمال الكردستاني الى تركيا لتصوير هذه العودة على انها انتصار للحزب المسلح على الدولة كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير، لأن الحزب تحول معها الى عنصر بات يهدد خطط الحكومة لحل القضية الكردية، خصوصاً أن حزب المجتمع الديموقراطي رد على مساعي الحكومة بتنظيم التظاهرات المناوئة لمخططها وانتقاده بشدة واعتباره محاولة لتصفية حزب العمال الكردستاني والسياسيين الأكراد، فأصر على النظر الى مشروع الحكومة من زاوية سياسية داخلية ضيقة ولم ير فيه إلا أن نجاح هذا المخطط سيهدد شعبيته على الأرض في الشارع الكردي. وكان من اللافت تنظيم الحزب لتظاهرات عنيفة للغاية أدت الى مقتل فتاة بريئة وجرح عشرات الأشخاص وإتلاف الكثير من الممتلكات العامة والخاصة وحرق عشرات السيارات في الشهر الماضي بحجة نقل عبدالله أوجلان الى زنزانة أضيق يسمح له فيها بلقاء سجناء آخرين من أجل تخفيف شروط السجن الانفرادي التي يخضع لها منذ عشر سنوات، إذ بدل رد فعل الحزب الكردي ? الذي اعتبره زعيمه أحمد ترك رد فعل ديموقراطي وطبيعي ? مبالغاً فيه ويؤكد من جديد أن الحزب يختصر القضية الكردية في شخص أوجلان وشروط حبسه. كما أن قيادات حزب المجتمع الديموقراطي زادت من تصريحاتها المؤيدة لحزب العمال في الفترة الأخيرة وكأنها تستجدي المحكمة الدستورية لحسم الأمر، ناهيك عن العملية التي قام بها حزب العمال وأدت الى مقتل سبعة جنود في محافظة طوقات بداية كانون الأول ديسمبر والتي لم يكن لها أي مبرر سوى انها تزامنت فقط مع زيارة أردوغان الى واشنطن وبدء المحكمة الدستورية النظر في قضية حظر الحزب، وهي العملية التي استفزت المجتمع التركي بمجمله، وكان من الصعب على المحكمة أن تخرج بحكم آخر على حزب يرفض وصف هذه الهجمات المسلحة بالإرهاب ويعتبرها حقاً مشروعاً للدفاع عن النفس. وجاء قرار نواب حزب المجتمع الديموقراطي الاستقالة من النيابة في البرلمان في إطار محاولة للاستفادة القصوى سياسياً من قرار الحظر، لأن الاستقالة ? إن وافق عليها البرلمان وهو أمر مستبعد ? من شأنها أن تدفع الى إجراء انتخابات تكميلية أكثرها في محافظاتجنوب شرقي تركيا حيث الغالبية الكردية، مما سيعني عودتهم مرة أخرى الى البرلمان ولكن في شكل أقوى، وسيعتبر التصويت بمثابة استفتاء كردي ? في ظروف غير طبيعية ? على مشروع الحل الكردي الذي تطرحه الحكومة. لذا فإن موافقة البرلمان على هذه الاستقالة أمر مستبعد، والأرجح إن الحكومة ستستمر وحدها في تطبيق ما وعدت به من اصلاحات على طريق مشروع الانفتاح الديموقراطي، بعدما اقتنعت بأن لا شريك سياسياً كردياً في هذه العملية، في الوقت الذي سيستبدل فيه حزب المجتمع الديموقراطي اسمه باسم جديد هو على الأغلب حزب السلام والديموقراطية الذي تم تشكيله سابقاً على سبيل الاحتياط، ليمضي مسؤولو الحزب من جديد في طريقهم، على أن الرهان يبقى لدى البعض في أن يسبب حل الحزب صدمة لدى هؤلاء من أجل مراجعة بعض سياساتهم وطرح تساؤل حول ما قدمه الحزب لقضيته وليس لزعيمه الروحي. لكن عملية مساءلة من هذا النوع مستبعدة في الجو"الثوري"الذي يسيطر على الحزب وكوادره والذي يجعل كل من يطالب بالتوقف والتفكير ومراجعة الحسابات متهماً بخيانة القضية، على رغم أن القضية تحولت هنا من القضية الكردية الى قضية أوجلان ورفاق السلاح. التفاوض مع أوجلان ليس مطروحاً بالنسبة الى الحكومة التركية، ويدعمها في ذلك كل من الاتحاد الأوروبي وواشنطن، علماً أن موقف الاتحاد الأوروبي الذي اتهمت مفوضيته حزب المجتمع الديموقراطي بأنه لم يضع حداً يفصل بينه وبين حزب العمال يشجع أنقرة على أن تمضي في طريقها مع دعم أوروبي - أميركي وعراقي كردي، وهو ما سيؤدي لاحقاً الى زيادة عزلة حزب العمال الكردستاني. وأما التفاوض عبر وسيط سري مع الحزب في جبال قنديل فقد أثبت انه لا يمكن الوثوق بحزب العمال بعد هجوم طوقات وقتل الجنود السبعة، وإن كان من المرجح أن يستمر التواصل ولو على مستويات أقل من أجل حصر دائرة العنف قدر الإمكان. في المستقبل ستزيد أنقرة من طلب الدعم من إقليم كردستان العراق والحكومة العراقية للضغط على حزب العمال الكردستاني من أجل ترك السلاح، وأن تذرع الحزب بأنه لا يثق بأنقرة والحل السياسي بعد حظر الحزب السياسي الوحيد الذي يمثل الأكراد، فأن أنقرة تؤكد أن لا مكان في تركيا أو حتى أوروبا لحزب سياسي يكون على علاقة عضوية وتنظيمية بمنظمة إرهابية مسلحة. وثمة توافق تركي - أوروبي على أن حزب المجتمع الديموقراطي فشل في أن يكون مثل"شين فين"الإرلندي. انه من المثير فعلاً أن تنتقل تركيا من حقبة الثمانينات من القرن الماضي التي كان فيها الأكراد يطالبون بالاعتراف بوجودهم وهويتهم وحقوقهم في ذلك، ويقولون انهم يشنون حرباً مقدسة لهذا الغرض ويحظون لذلك بدعم دولي وإقليمي، وبين ما نعيشه اليوم، حيث يتحدث أردوغان في البرلمان عن القومية الكردية وحقوق الأكراد وهويتهم الثقافية التي يجب الاعتراف بها في تركيا، فيما عمليات الحزب الكردستاني المسلحة تستمر ولكن بحجة طلب المزيد من الراحة لزعيم الحزب المسجون، من دون حديث عن حقوق الأكراد أو مطالبة بالاعتراف بالهوية لأن ذلك قد حصل فعلاً، وأن نرى أن الدعم الدولي والإقليمي قد تحول عن أكراد تركيا الى صالح أنقرة وعملياتها العسكرية في شمال العراق. صحيح أن الأكراد كانوا قد حصلوا على وعود مسجلة في دستور 1920 قبل تأسيس الجمهورية، من مصطفى كمال أتاتورك بإعطائهم حكماً ذاتياً مقابل التخلي عما جاء في اتفاقية سيفر ? التي تعد بإعطاء الأكراد دولة قومية في المنطقة ? والقتال الى جانب الأتراك في حرب التحرير ضد الاحتلال الأجنبي، وصحيح أن أتاتورك ورفاقه تخلوا عن وعودهم تلك وبدأوا حملة لإنكار الوجود الكردي في تركيا، لكن القضية الكردية تبقى قضية نظام وليست قضية قتال داخلي أو صراع عرقي. فمشكلة الأكراد الحقيقية هي مع النظام الذي وُضع من دون استفتاء الشعب فيه بسبب ظروف الحرب حينها، ومع دستور عام 1982 الذي وضعه العسكر أيضاً، ولم يحصل ترحيل عائلة كردية من حي تركي أو العكس. مشكلة الأكراد الحقيقة هي مع النظام تماماً كما أن مشكلة الإسلاميين هي مع النظام وكذلك مشكلة العلويين والأقليات المسيحية والأرمنية هي مع النظام وليست مع بعضها بعضاً.