المصعد يجري إلى أعلى كصاروخ مارق. موظف شركة العقارات عيناه مثبتتان على لوحة الأرقام. تذكرت وأنا داخل تلك الحشرة الزجاجية التي تلتصق بحائط البناية الخارجي، شكل العنكبوت عندما يتسلق بسرعة هائلة مقارنة بحجمه ودقة الخيط المتدلي من السقف. كل وقفة يتناقص عدد الركاب، حتى بقيت وحدي مع الرجل. بعد وقت ليس بقصير، تحولت عينا الرجل عن اللوحة، رفع حاجبيه ثم خفضهما موحياً لي بأننا وصلنا. قبل فتح الباب، سألني الرجل: لماذا تبدو قلقاً، بعد لحظات ستكون المدينة تحت قدميك، منظر رائع. دفعني الرجل لأكون في مواجهة الباب، الذي فُتح بمقدار يسمح لجسدي أن يخرج بالكاد. خطوت خارج المصعد إلى بلاط الممر. ما إن خرجت حتى انسحب إلى أسفل... صعقت عندما اكتشفت أن ليس هناك ممر، بل بلاطة واحدة أقف عليها تسع قدمي فقط. كدت أن أصرخ رعباً، لكن الروح أخرسني. وجدت نفسي واقفاً على رأس مسمار طوله يزيد على الكيلومتر. لوقت طويل أخذ جسدي يترنح إلى الأمام والخلف، أخذت المسافة بين الترنحات تقل كبندول يتجه إلى السكون، وأصبحت واقفاً، لكن ذراعيّ استمرتا في وضعهما الأفقي بمحاذاة الكتفين. أصبحت كخيال المآتة الذي يقف وحده في حقل لا نهائي من الفراغ. لحسن الحظ كان الوقت ليلاً، لم أقدر هذا الحظ إلا عندما أشرقت الشمس. كان الرجل صادقاً في الجملة الوحيدة التي قالها. بدت المدينة كقطعة من القطيفة السوداء، منثور عليها ملايين من الأحجار الكريمة من كل لون، ولكن هذه المدينة الهائلة، التي قال إنها ستكون تحت قدمي، لا يمكنني أن أتحرك فيها إلا على مساحة بلاطة. عرفت في الصباح أن الليل كان عطوفاً معي، فحفظ التوازن أسهل ليلاً، أستطيع أن أنظر إلى أسفل، أما العذاب فيُضاعف لي في النهار، أدور طول الوقت حول نفسي، مع تضاعف الخوف من السقوط، هذا غير الندف البيضاء التي تمر أحياناً، فتحتوي رأسي بين ثناياها. تكاد تخنقني. عندما أرى المدينة ليلاً، تنتابني مشاعر هي خليط بين الحسرة والحنق على ملايين من البشر، يعيشون في سلام، وأنا وحدي، معذب على رأس هذا المسمار. بالاستمرار، يتراجع الرعب ليتقدم الفكر. كل ما أذكره هو أن الرجل الذي جاء إلى منزلي بعد مكالمة شركة العقارات لم يقدم نفسه، كل ما قاله: اتبعني، فتبعته كالمنوّم، كي يقذف بي على رأس هذا الرعب. كل ما أفكر فيه الآن هو كيف أدرب نفسي على التأقلم مع هذه الورطة. حاولتُ أن أثني جسدي كي أرى جرم هذا المسمار، كدت أن اسقط، ولا أدري كيف لم أسقط، لكنني اقتنصت نظرة الى المسمار الذي يحملني على رأسه. هناك أمل باهت في أن يأتي الرجل ليلتقطني كما أسقطني، لكن النظرة التي اقتنصتها أكدت لي أن ليس هناك مسمار، لكنها البلاطة وحدها. إلى متى سأظل معلقاً؟ لا أنا حي ولا أنا ميت، حالة لم يمر بها إنسان من قبل، قد يكون قابلها أناس من قبل، لكنهم لم يعودوا ليحكوا. المدهش، هو أن ما أنا فيه الآن، كنت أنتظره، لكن بأشكال من تصورات أرضية. كنت أحس دائماً بأن هناك متربصاً خلف باب حجرة نومي عندما أغلقه لأنام، يتبعني عندما أفتحه. دائماً أحسب حساباتي إذا ما دهمني، أعدّ ما أملكه، أصنّف نقودي، حتى جسدي أهتم به وبعضلاته، علّ المواجهة تكون جسدية، المسدس مشدود إلى جانبي، جاهز دائماً، لكن ما أنا فيه جاءني من حيث لا أحتسب الآن، كل هذه الاحتياطات محض هراء. لا أنا الآن عارٍِ تماماً، أقف على الأعراف. هل من الممكن في موقفي هذا إيجاد ثقافة جديدة وفكر جديد يعيدان إلي توازني؟ كي أتوافق مع موقع قدمي الذي أملكه، أو لأقل يملكني، انه الجرم الذي أسكنه أصبحت لا أشعر ببرد أو حر، لا أجوع ولا أعطش، يبدو أنني تحررت من الجسد، لكن المشاعر والأفكار ما زالت إنسانية تماماً، اكتشفت أن الخلاص إليهما يجعل العذاب مضاعفاً، حزنت على جسدي، عندما أحسست ان حلتي فارغة ولكنها منتصبة، حزني لانقطاع الحبل السري عن الأرض التي أعشقها، بكل ما فيها، حتى عصيان خيال المآتة محروم منها، الموت هو فقدان الجسد وبقاء الأفكار. أيكون هذا هو العذاب؟ حتى عذاب سيزيف الوثني كان أهون، فقد أتيحت له لحظات يكون فيها على الأرض. يا لي من أحمق متبجح، أشبَّه بذبابة يطاردها مضرب، فتختزل المطلق في ذاتها التافهة، وكأن الكون منحصر بينها وبين المضرب. أتكون تجربة صعبة، لتلقي رسالة أصعب؟ لكن الأمر إلى من سأحمل الرسالة؟ ما أروع الحسرة والعجز. لا بد من خيار، سأقفز خارج هذا السجن، كي أنعتق من العذاب، الذي لا يترك لي ثانية أستريح فيها. لست متأكداً مما سألاقيه خارج البلاد. على أي حال، لن يكون أسوأ مما أنا فيه، استجمعت شجاعتي. حاولت أن أقول أي كلمات، لكنني كمن فقد اللغة، قفزت، نسيت أنني فقدت كتلتي لكنني قفزت إلى هوة يأس عميقة، فأنا كحبة برادة حديد، ملتصقة إلى مغناطيس هو البلاط، على رغم الكارثة ابتسمت، خطر على بالي أن ينتحر أحدهم بإلقاء نفسه من على سطح الكرة الأرضية. نشر في العدد: 16720 ت.م: 13-01-2009 ص: 28 ط: الرياض