كنت مستلقية على الأريكة أقرأ الإلياذة بنهم شديد، وأتابع أحداثها بلهفة وتشوّق بالغَيْن عندما رنّ جرس المنزل. وضعتُ الكتاب على المنضدة الخفيضة قربي ونهضت. وعندما فتحت الباب فوجئت بمنظر لا يخطر على البال. رجل في عنفوان الشباب يرتدي تنورة وينتعل حذاء يشبه الصندل الى حد بعيد، وقد ارتفعت اربطته الى ما دون ركبتيه بقليل. كان يرتدي درعاً ويعتمر خوذة حربية كالتي كان يعتمرها الاغريق. ظننت للوهلة الأولى انني احلم. لا بدّ انني غفوت وأنا أقرأ الإلياذة، ولا بد ان ما أراه امامي هو احدى خدع الحواس لئلا استيقظ على صوت الجرس. ولكن الرجل كان لا يزال واقفاً عند الباب، لا اعرف لماذا تخيّلت انه يشبه اخيل، احد ابطال الالياذة المشهورين. ولشدّ ما صُعقت عندما بادرني بقوله: - لستِ واهمة ولا نائمة. انا أخيل بلحمه ودمه. آمل ألا أزعجك ولكني اريد العودة الى الإلياذة. ازداد ذهولي وتأكدت من انني كنت احلم. أغلقت الباب في وجه الوافد الغريب، لكنه دفع الباب بقوة اجبرتني على التراجع، ودخل. طفق يجيل الطرف هنا وهناك كأنه يبحث عن شيء محدّد، وأنا واجمةٌ ساهمةٌ وضائعةٌ بين الحلم والحقيقة، ولم يلبث ان قال: - أين هي؟ قلت: - من تقصد؟ قال: - الإلياذة. ومن دون وعي أشرت الى باب غرفتي قائلة: - انها هناك، على المنضدة الخفيضة قرب الأريكة. أسرع الرجل الى غرفتي، فتبعته مذعورة وأنا ألوم نفسي كيف سمحت له بالدخول وكيف اشرت عليه ان يدخل غرفتي. وهناك حدث ما عقد لساني من الرعب. ما إن شاهد الرجل الكتاب على المنضدة الخفيضة حتى وثب اليه وغاص فيه كمن يغوص في لُجّة البحر. أسرعتُ الى الكتاب وأنا لا أصدّق حواسي. رفعته بين يديّ. قلّبت صفحاته بسرعة وارتباك. لم يكن ثمة أثرٌ للرجل. داخَلَني الرعب. وانطلقت مذعورة افتش عنه في ارجاء المنزل غرفة غرفة، تحت الأسرّة والأرائك، داخل الخزانة، وراء الستائر ولكن من دون جدوى. هرعت الى المغسلة وفتحت الصنبور على آخره. غسلت وجهي وحانت مني التفاتةٌ الى المرآة. لم أكن أحلم ولم اكن واهمة. انه الاجهاد على ما اعتقد. ولكن لم يكن ثمة ما يدل على الاجهاد، الا ان مسحة من الرعب والذهول كانت تكسو ملامحي. وقفت ساكنة افكر في ما حدث. أيقظني من شرودي رنين جرس الباب. كنت في أمسّ الحاجة الى مَن يؤنس وحدتي، والأهم من ذلك الى من يقدّم إلي يد العون في تفسير ما حدث. فتحت الباب على عجل، وكادت شهقة حادة ان تصدر عني، اذ رأيت رجلاً آخر لا اعرفه، وكانت سحنته وملابسه لا تختلف كثيراً عن سحنة وملابس الرجل الأول. تمالكتُ نفسي وسألتُه: - نعم؟ قال: - أنا أوليسيز، ملكُ إيثاكا. يا إلهي! متى ستنتهي هذه المهزلة. ولم يُمهلني الرجل بل سارع الى القول: - بلغني ان أخيلَ هنا. إن الاسطول الهيلاني ينتظرنا، فقد اكد الكاهن تيريزياس ان الآلهة اخبرته اننا لن نُفلح في فتح طروادة الا اذا كان اخيلُ معنا. قلتُ في استخفاف وقد أوشك صبري أن ينفد: - وما شأني أنا بذلك؟ وما المطلوب مني؟ أجاب: - ان تسمحي لي بدخول الإلياذة. وهنا نفد صبري وإن كنت تأكدت بما لا يدع مجالاً للشك من انني كنت احلم. ويا له من حلم! صفقت الباب بشدة في وجه هذه الشخصية الجديدة الا انه افلح في صد الباب والدخول. امسكت رأسي بيديّ لئلا ينفجر، ثم، باستسلام مرير، أشرت له بيدي الى الغرفة. ومرة اخرى عقد الرعب لساني اذ ما ان شاهد الرجل كتاب الإلياذة حتى فتح احدى دفّتيه، ونزل فيه كَمَن ينزل الى بئر سحيق. هممت بالصراخ، ولكنّ صوتي احتبس في حلقي. متى سأستيقظ من هذا الحلم المروّع؟ تهالكت الى اقرب أريكة. وحانت التفاتة مني الى منضدة خفيضة أمامي فسرت القشعريرة في اوصالي: رأيت علبة سجائر أمامي. ما هذا؟ يا إله السموات! لو كنتُ أحلم، لكنت الآن في عصر اخيل وأوليسيز أي في عصر حروب طروادة الشهيرة. وعلبة السجائر امامي تؤكد انني في عصري الحالي أي في القرن العشرين. ولا يمكن ان اكون في عصرين مختلفين في وقت واحد ولو في الحلم. مددت يدي من دون وعي وأخذت لفافة تبغ، وأشعلتها ساهمة والافكار تفترس مخيلتي. رحت أجيل الطرف حولي، وكلّما وقع بصري على شيء ازددت رعباً. الهاتف. التلفاز. الفيديو. كلها تؤكد انني في القرن العشرين. الهاتف؟ لِم لم تخطر هذه الفكرة لي من قبل؟ لِم لا أتصل بإحدى صديقاتي؟ سأتصل بسامية أو إلهام لأتأكد من حالتي. وبسرعة البرق امسكت سماعة الهاتف بيدي ورفعتها. وبأصابع مرتعشة رحت اطلب رقم سامية. كان الخط مشغولاً. فلأتصل بإلهام اذاً. ومرة اخرى رحت بأصابع ترتجف وقلب يدقّ بشدة اضرب رقم إلهام. مرّ زمن طويل قبل ان تتناهى الى اسماعيل نغمة الخط المشغول، يا إلهي! ما هذا الحظ! لن أيأس وسأحاول مرة اخرى وقبل ان أمدّ أصبعي الى لوحة الأرقام في الهاتف سمعت نقراً خفيفاً على الباب. قفز قلبي من صدري. هل افتح؟ من يضمن لي الا يكون الطارق شخصية جديدة من الإلياذة. لن أفتح. ولكن، ماذا لو كانت احدى جاراتنا او احدى صديقاتي. وأنا الآن في أمسّ الحاجة الى اي شخص من عصرنا الحالي. قرّرت ان افتح. وما ان فعلت حتى كدت اصفقه مرة أخرى. كانت تقف عند الباب امرأة وفتاة شابة غريبتا الشكل والملابس. كانت هيئتهما تدل على انهما من الإغريق. وجّهت كلامي الى كُبراهما بصوت لا يخلو من الرعشة قائلة: - لا تقولي لي أنكِ هيلين طروادة؟ أجابت بأنفة وكبرياء: - بل أنا كليتمنسترا زوجة الملك أغا ممنون القائد الأعلى للهيلانيين، وهذه ابنتي أفجينيا، وقد أرسل لي أغا ممنون طالباً إحضارها لعقد قرانها على أخيل. لفّ الدوار رأسي. وتذكرت: كانت فكرة الاقتران بأخيل حيلة عمد اليها آغا ممنون ليستدرج أفجينيا، بينما كان في الحقيقة سيقدمها قرباناً للآلهة العطشى الى الدماء، والى دماء افجينيا بالذات، لتطلق الرياح من عقالها فتدفع بالأسطول الى طروادة. يا إلهي!! رحت أتأمل هذه المسكينة القادمة الى حتفها وهي تعتقد انها قادمة الى عرس تقترن فيه بأشهر شخصيات الإلياذة. ولمعت فكرة غريبة في رأسي. سأمنع حدوث ذلك. وبسرعة البرق صفقت الباب وأوصدته بالمزلاج قبل ان تتمكن اي منهما من صده والدخول كما حدث مع شخصيتي أخيل وأوليسيز. اسندت ظهري الى الباب لاهثة وأنا أفكر كيف استطعت منع هاتين السيدتين من دخول الإلياذة. هل سيغير ذلك من مجرى التاريخ، او على الأقل الاسطورة التي بُنيت عليها الإلياذة. توقّفت قليلاً وأصخت السمع الى الخارج لأستشف ما يمكن ان تفعله هاتان السيدتان. لم تكن ثمة أدنى حركة في الخارج. وببطء مشوب بالخوف نظرت من العين السحرية المثبتة في الباب. لم يكن ثمة أحد. لقد رحلتا إذن. ولكن، الى أين؟ استبدّ بي الفضول. أردت ان أهرع الى الشرفة لأرى أين ذهبتا، وكيف سيكون لمثل هاتين السيدتين في ملابسهما وهيئتيهما أن تسيرا في شوارع مدينتنا العصرية. ووقع بصري على الهاتف وأنا اسرع الى باب الشرفة. الهاتف! سأعيد الاتصال. ولكن، لا. سأرى أولاً اين ذهبت السيدتان وبعدها سأعود الى الهاتف. وما ان وضعت يدي على مقبض باب الشرفة حتى تناهت الى سمعي اصوات غريبة تنبعث من غرفتي. يبس الدم في عروقي. وبخطا واجفة تقدمت وعلى رؤوس اصابعي. وعندما وصلت الى باب غرفتي المفتوح، كدت اسقط مغشياً علىّ. كانت السيدتان هناك وقد غاصتا معاً في كتاب الإلياذة كما لو كانتا تغوصان في مستنقع من الرمال المتحركة الى ان تلاشتا تماماً. يا إله السموات والأرض! أنقذني مما أتعرض له. ان كان حلماً فأيقظني، وإن كان يقظة فأرحني منها. لا بد انني أصبت بالجنون. لا بدّ انني في مصح عقلي. ولكن لا... انا في بيتي والأثاث وأشيائي الخاصة المبعثرة هنا وهناك تؤكد ذلك. وفي الوقت نفسه تنفي انني احلم. لا يمكن ان اكون في عصر حروب طروادة وفي القرن العشرين في وقت واحد. لا بدّ انني جننت إذن. انها نتيجة الافراط في المطالعة. انها نتيجة الهروب الى عالم الكتب من عالم الواقع. الم يحدث الشيء نفسه لدون كيشوت؟ ألم تجعله مطالعة كتب الفروسية يعتقد نفسه فارساً فراح يحارب طواحين الهواء؟ ما العمل الآن؟ وأياً كان السبب، يجب ان اخرج مما انا فيه. وخطرت لي فكرة شيطانية. ومن دون ان أضيّع دقيقة واحدة كنت قد تلقّفت الفانوس من المطبخ وهُرعت الى الغرفة فأمسكت كتاب الإلياذة وأسرعت الى الباب. فتحته بسرعة مرتبكة، وفي أسرع من لمح البصر كنت أنزل درجات الطوابق الثلاثة نحو الشارع قبل ان تفاجئني شخصية اخرى من الإلياذة فتقضي عليّ من الجنون. في ساحة مكشوفة امام منزلنا وضعت كتاب الإلياذة على الأرض. وبارتباك وعجلة بالغين رحت اسكب الكاز من الفانوس على الكتاب وأشعلت عود ثقاب. وفي غضون ثوان معدودة كانت ألسنة اللهب تتصاعد من الكتاب مصحوبة بدخان أسود كثيف. ومن وسط ألسنة اللهب تناهت الى اسماعي اصوات بشرية لا حصر لها وأصوات آلهة الاغريق وهي تصرخ ألماً وعذاباً.