بايدن أبلغ حليفا رئيسيا بأنه يدرس استمراره في السباق الانتخابي من عدمه    الربيعة يدشن في ولاية هاتاي برنامج "سمع السعودية" التطوعي للتأهيل السمعي    وزير الخارجية يصل إلى مدريد للمشاركة في الاجتماع السنوي للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية    ارتفاع عدد قتلى حادث التدافع بشمالي الهند إلى 121    ضيوف الرحمن يغادرون المدينة المنورة إلى أوطانهم    «مكافحة المخدرات» بالحدود الشمالية تقبض على شخص لترويجه مادة الإمفيتامين    الشورى: تمكين المركز الوطني لإدارة الدين من البيانات اللازمة للمشاريع    أمير جازان يتسلّم تقريرًا عن أعمال إدارة السجون بالمنطقة    جامعة القصيم تعلن مواعيد التقديم على درجتي البكالوريوس والدبلوم    بدء المرحلة الثانية من مشروع الاستثمار والتخصيص للأندية الرياضية    الوفاء .. نبل وأخلاق وأثر يبقى    مواجهات في الشجاعية . ومجزرة إسرائيلية في غزة    جيسوس يوجه رسالة لجماهير الهلال    مؤشر سوق الأسهم السعودية يغلق منخفضًا عند مستوى 11595 نقطة    الأمير سعود بن نهار يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية اليقظة الخيرية    الحرارة أعلى درجتين في يوليو وأغسطس بمعظم المناطق    السجن 7 سنوات وغرامة مليون ريال لمستثمر "محتال"    إطلاق برنامج المجموعات البحثية المتخصصة في مجال الإعاقة    الدكتور السبتي ينوه بدعم القيادة غير المحدود لقطاع التعليم والتدريب في المملكة    بيئة وغرفة القصيم يعرفان بالفرص الاستثمارية    "التأمينات" تعوَض الأم العاملة عند الولادة 4 أشهر    «الموارد البشرية» تفرض عقوبات على 23 صاحب عمل وإيقاف تراخيص 9 مكاتب استقدام    موسكو تسجل أعلى درجة حرارة منذ 134 عاماً    كوستاريكا تودع كوبا أمريكا رغم فوزها على باراجواي    محلي البكيرية يناقش الأمن الغذائي للمنتجات الزراعية وإيجاد عيادات طبية    سمو محافظ الخرج يستقبل رئيس غرفة الخرج    تحسن قوي بالأنشطة غير النفطية في يونيو    السواحه يبحث مع زوكربيرج التعاون بالذكاء الاصطناعي    بيولي مدربًا للاتحاد حتى 2027    مفتي عام المملكة يستقبل أمين محافظة الطائف    الأمان يزيد إقبال السياح على المملكة    سفارة السعودية بكوبا تُهيب بالمواطنين في جامايكا توخي الحذر مع اقتراب إعصار بيريل    بناء محطة فضائية مدارية جديدة بحلول عام 2033    اتحاد القدم يعين البرازيلي ماريو جورجي مدرباً للمنتخب تحت 17 عاماً    ميزة طال انتظارها من «واتساب».. الاتصال دون حفظ الرقم    يورو 2024.. تركيا تتغلب على النمسا بهدفين وتتأهل إلى ربع النهائي    البرتغاليون انتقدوا مهنيتها.. «قناة بريطانية» تسخر من «رونالدو»    «كفالة»: 8 مليارات تمويل 3 آلاف منشأة صغيرة ومتوسطة    تجسيداً لنهج الأبواب المفتوحة.. أمراء المناطق يتلمسون هموم المواطنين    وصول التوأم السيامي البوركيني الرياض    أزياء المضيفات    ازدواجية السوق الحرة    ولي العهد يجري اتصالاً هاتفياً بملك المغرب    أمير الشرقية: مشروعات نوعية ستشهدها المنطقة خلال السنوات المقبلة    90 موهوبًا يبدأون رحلة البحث والابتكار    التعليم المستمر يتابع سير الحملات الصيفية لمحو الأمية بالباحة    أمير القصيم ينوه بعناية القيادة بالمشروعات التنموية    طه حسين في المشاعر المقدسة 2-1    ولي العهد يعزي هاتفيا ملك المغرب في وفاة والدته    نائب أمير مكة يستقبل عددًا من أصحاب السمو الأمراء والمعالي والفضيلة العلماء    هنّأ رئيس موريتانيا وحاكم كومنولث أستراليا.. خادم الحرمين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    الحج .. يُسر و طمأنينة وجهود موفقة    التراث يجذب الزوار في بيت حائل    تأثير التكنولوجيا ودورها في المجتمع الحديث    "التخصصي" يجري 5000 عملية زراعة كلى ناجحة    أمير القصيم يكرّم عدداً من الكوادر بالشؤون الصحية في المنطقة    "الطبية" تعالج شلل الأحبال الصوتية الأحادي لطفل    نائب أمير مكة يرأس اجتماعاً لمناقشة التحضير للحج القادم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرجل الذي أكله الحزن ٭
قصة
نشر في الرياض يوم 09 - 06 - 2005

قال لي: اذا لم تشرح لي حالتك لن اتمكن من مساعدتك، لن اخرجك من حالتك هذه ابداً، ربما سيحدث لك يوماً انتكاسة، لحظتها لن نتمكن من مساعدتك! قلت في نفسي وانا انظر صوب مريلته البيضاء، لماذا يملكون هذا القدر الضخم من الثرثرة المجانية، وانا كالأخرس، لا املك ان اعبر عن حالتي، فقط احتاج الى وحدة وعزلة دافئتين، وقلم فحسب، لاكتب على ظهر كرتون المناديل الورقية، او على المناديل ذاتها، او على مؤخرة هذا الغبي الذي يشبه عمله عمل المحققين او المخبرين السريين، يستدرجني لاحكي له عن حالتي، ويقوم بكتابة ما اقوله له داخل هذا الملف الأخضر، ويردد لي كمن تحوم حوله شكوك: لا تقلق! هذه المعلومات سرية! انا اسجلها فقط لاغراض طبية!.
لم اقل له: لو كنت املك ان اكتب ما يطوّح بي ويرجني على ظهر هذا البلد لفعلت، جربت ان اكتب شتائم واحزانا واحلاما ورسائل على الجدران، لكنها لا تكفي، يأتون في اليوم التالي ويدهنون جدرانهم القبيحة كي يخفوا سوءاتهم التي اثيرها بكتاباتي الجدارية، لست مراهقاً، بل مرهقاً ويائساً وحزيناً!.
همس بوداعة: لم انت كتوم؟ ولم جئت هنا؟ لماذا لا تعتبرني أخاً او صديقاً؟ لم اقل له لا اخوة لي، ولا اصدقاء ولا اعداء، لاشيء يحرضني على الكلام في هذا العالم كله، لا الشوارع ولا العمارات ولا الاشجارولا عيادات الاطباء، لا الوجوه العابرة، ولا المألوفة المتكررة، حتى الاشجار التي كنت احكي معها قبل سنوات لم اعد اجد ما يبرر صداقتي الطويلة لها!
قام بغتة من كرسيه الدوار، والتقط من رف المكتبة خلفه شيئا ما لم الحظه، ووضعه على الطاولة: هذا تمثال زجاجي، انظر اليه! حدقت فيه وهلة قبل ان يقف ثانية ويتجول في غرفته الصغيرة: انت مثل هذا التمثال سهل الكسر، قد يسقط من على الطاولة ويرتطم في البلاط ويتهشم! كنت انظر في النافذة قبل ان اضيف الى كلامه: وانا قد اسقط من النافذة وارتطم بالاسفلت واتهشم! التفّ نحوي سريعاً، وجلس على الكرسي المقابل، وحدق بي، فرأيت في عينيه البغيضتين غشاوة تشبه غشاوة الموتى! سألني بتشف: لماذا تريد ان تقفز من النافذة؟ وقفت فجأة، واستدرت تجاه الباب دون ان ادفع له اجرة الكشف: لا تخف، سأخرج من الباب، ولن انتحر على سلالم في عمارة بغيضة! وصفقت الباب خلفي.
في الشارع تركض حولي صناديق احزاني المغلقة، كأنما هم اطفالي المخلصون الاشقياء، هذا صندوق الحنين الى ما لست اعرف، وهذا صندوق الالم، وذاك البعيد الذي يجرجر اقدامه صندوق الذكريات، واما ذلك الصندوق الطويل الذي يشبه النعش فقد كان صندوق البكاء! كنت ابكي بحرقة، وجهي تضربه شمس يونيو اللاهبة دون ان تجفف دمعه! كنت اغني بضيق، اردد اغنيات قديمة لمطرب شعبي، وانشج بشراسة ناقة، لم انتبه الى ما حولي، لم اشعر ان هناك من يمشي معي على الرصيف، كنت وحيداً ابكي واغني واتذكر معا!.
مشيت قرب سور مدرستي الابتدائية، ثم انعطفت الى شارع مظلم وتوقفت عند باب المدرسة المقفل، طرقته بحذر، ثم طرقته بشدة لم يكن هناك احد! سحبت قدميّ بتخاذل، بعد ان تلفّت طويلاً باحثاً عن الحارس الذي يبيع حماماً في العصر، ويرتاد نادي النصر ليلاً. عدت الى الشارع المضيء، ومشيت صاعداً الشارع دون ان اتوقف عند باب خالد الذي صار ضابطاً، او سعيد الذي اصبح لاعب كرة مشهورا. عند المخبز الاتوماتيكي بحثت عن سيارتي النيسان البيضاء القديمة، فوجدتها تقف عند باب المخبز. انتظرت قليلاً حتى خرج شاب عاري الرأس، ليفتح بابها. لحقت به وسألني: خير؟ قلت له: سيارتي، وانا اشير نحوها! دفعني برفق وادار محرك السيارة، وانطلق بسرعة ووجل!.
مشيت تجاه شارع العصارات وانا اقضم اصابعي، اجتزت الشارع دون ان التفت صوب السيارات المسرعة، سرت ببطء شديد اسفل سور وزارة العدل المتكلس، كنت اقف كل لحظة واطالع في الاشجار الهرمة اليابسة من وراء السور. كان الشارع خاليا والليل يتمدد مثل عجوز لقيط. انعطفت ناحية منزلنا، وطرقت الباب طويلاً، لم يكن هناك صوت سوى مناغاة اشجار الكينا، وهي تهدهدني مثل طفل ضال وشريد. قلت لها: لماذا لا تفتحين لي الباب؟ انعطفت برأسها الشامخ الى الوراء دون ان تجيب! عادت ثانية وتلصصت علي. رجوتها بنزق: هيا افتحي ياعجوز! اريد ان اطمئن على البنسيانة وسط الحوش! اضطربت اوراقها ثانية وهي تشيح بوجهها عني!.
ظللت وهلة اقضم اصابعي واتلفت بضجر وارتباك، ثم دخلت في نوبة هياج وانا اهز الباب الحديدي الضخم من مقبضه، بدأ يتمايل مثل شجرة الكينا، حتى انفتح عن آخره. اعرف سره مذ كنت صغيراً، ما ان ارجّه بقسوة الصغار حتى يضعف وينفلق مثل ثمرة ناضجة! دخلت حذراً ومرتبكاً، بعد ان اغلقت الباب خلفي بهدوء، انعطفت يميناً باحثاً عن الحديقة المنزلية بنخلة السلج التي اصعدها كي ألقح طلعها ذا الرائحة المدهشة، لم اجدها، ولم ار شجرة التوت ولا الجهنمية المتسلقة بزهرها ثلاثي الاوراق، لم اجد شيئا غير بيت شعر اسود كبير جداً، يغطي مساحة الحديقة تماماً، تجاوزته دون ان انظر داخله، ذاهباً الى الحديقة الأخرى التي تتوسطها نخلة ثانية، وتجاورها شجرتا جوافة تطلان برأسيهما على الجيران، كم اربكني ان اجد البلاط المرصوف بعناية يملأ المكان بأكمله، تهاويت على البلاط، وانا الهث: اللعنة، لم كل هذا البلاط؟ مع من سأتكلم الليلة؟ لا شجرة افضي بأسراري بين اوراقها، لا نخلة تمسح على رأسي بسعفها! علي من سأدلق احزاني الليلة، البيت لم يعد البيت، وامي ليست هنا، والاشجار طوت جذورها وغادرت، والليل موشح على بلاط ابله وغبي، وانا وحيد لا اسمح صوتي ابداً، صرت انشج الليل كله، وانا ممدد على البلاط الابيض المنقط بالسواد، ممدد مثل قتيل، مثل جنازة اكلها الحزن!.
تسللت حرارة الى وجهي، فكرت وانا في الغيبوبة هل مازلت حياً، لم افتح عيني المطفأتين، حركت يدي بصعوبة بالغة، رفعتها تجاه جبيني، سرت حرارته الى يدي، تشجعت ففتحت عيني، ونظرت الى الاعلى حيث شمس الظهيرة تصفع وجهي، والبلاط حولي حرارته عالية، حاولت ان استند بمرفقي على البلاط الحارق، فلم استطع. حاولت ثانية، وزحفت قليلاً نحو الظل لصق جدار البيت، ثم اتكأت على الجدار، ونهضت بتثاقل، خطوت ببطء، وانا استند بكتفي على الجدار مررت بجوار بيت الشعر الاسود الضخم، وهو يسترخي مكان الحديقة بلا اكتراث، تجاوزته، ثم اتجهت صوب الباب الخارجي، دون ان ارفع رأسي نحو شجرة الكينا، فجأة، اصطدمت جبهتي بالباب، فاهتز، واتكأت عليه بكفي، وحين اردت ان اجذب قفل الباب، ارتعبت بغتة، لم يكن في كفي اصابع، متآكلة كانت، كأنما شيء حارق وقاس جزها اثناء غيبوبتي، فرفعت رأسي صوب الكينا، واجشهت بالبكاء!.
٭ من مجموعة قصصية جديدة بعنوان (أخي يفتّش عن رامبو) تصدر الاسبوع المقبل عن المركز الثقافي العربي - بيروت/الدار البيضاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.