يعد الناقد اللبناني إبراهيم العريس واحداً من الأسماء البارزة في مجال النقد السينمائي في العالم العربي، فهو، إلى جانب أسماء أخرى قليلة، مواظب على متابعة الحركة السينمائية العربية، وحريص على مواكبة كل جديد فيها. ولا يقتصر هذا الاهتمام على السينما العربية، بل يمتد ليشمل السينما العالمية من هوليوود إلى بوليوود. وينبع هذا الاهتمام، بالدرجة الأولى، من العشق الذي يكنّه العريس للسينما إلى حد يوحي بأنه"مولود في أحد مواقع التصوير لأحد الأفلام العشرة الأوائل في تاريخ الفن السابع"، كما يكتب بندر عبدالحميد على الغلاف الأخير للكتاب الذي صدر حديثاً للعريس بعنوان"السينما، التاريخ والعالم". هذا الكتاب، الصادر ضمن سلسلة الفن السابع عن المؤسسة العامة للسينما السورية دمشق - 2008، يضاف إلى مجموعة كتب أخرى أصدرها العريس، تأليفاً وترجمة، في مجال السينما أغنت المكتبة السينمائية العربية التي تكاد تتكئ على ترجمات لكتب سينمائية تصدر في الغرب، أو مؤلفات تتخذ غالباً طابعاً دعائياً، أو سياحياً لهذا المهرجان السينمائي العربي أو ذاك. وعلى رغم أهمية هذه الترجمات، وتلك المؤلفات"الدعائية"، إلا أنها تفتقر إلى رؤية نقدية عربية تتلمس تاريخ السينما وإنجازاتها وتطوراتها وخيباتها ورموزها وإشكالياتها... لذلك لا مبالغة في القول إن الأقلام العربية النقدية غائبة عن السجال الدائر حول السينما، وهي تبدو عاجزة عن الخوض في قراءة العلاقة بين الفن السابع والواقع السياسي والاجتماعي. فالعالم العربي يستقبل الفيلم، ويستقبل نقده معه، ومن هنا يمكن القول إن كتب العريس، وقلائل غيره، تشكل مساهمة نظرية قيمة، وتشيع ثقافة بصرية بات القارئ العربي في أمسّ الحاجة إليها، وهي من ناحية أخرى تكشف خفايا وحقائق تقف وراء هذه الحركة السينمائية الدؤوبة على مستوى العالم. من المعروف أن التاريخ بأحداثه وانعطافاته وأزماته يعد احد الموضوعات المفضلة للسينما. ولعل الانتصار الذي حققته السينما في هذا المجال هو الذي يدفع المؤلف إلى إفراد صفحات من كتابه للحديث عن هذه السينما التي تعرف ب"السينما التاريخية"، والمقصود بهذا التعبير هو"مجموع الشرائط التي تعيد إلى الشاشة الكبيرة أحداثاً وقعت في الماضي، القريب أو البعيد - سواء استخدمت مجموعات من الشرائط الوثائقية التي سجلت الحدث بالفعل في القرن العشرين وحده طالما أن السينما لم تكن اخترعت قبل ذلك - أو بنت ديكورات وأتت بممثلين أوقفتهم أمام الكاميرا ليؤدوا أدوار شخصيات تاريخية: من هرقل إلى نابليون، ومن جان دارك إلى هتلر، ومن نيرون إلى سبارتاكوس، ومن صلاح الدين إلى عبدالناصر وصولاً إلى ستالين ولنكولن ولينين ودافنشي وغيفارا وسقراط وفان غوغ وغاندي... والواقع أن هذا النوع السينمائي - كما يلاحظ العريس - حظي على الدوام باهتمام المنتجين والمخرجين الذين عملوا على صوغ تاريخ العالم من جديد على شاشة السينما، على اعتبار أن هذا النوع السينمائي وجد قبولاً واسعاً لدى الجمهور العريض على نحو يصعب شرحه وتفسيره. لكن العريس يجتهد في رد ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسة هي: الفضول، الرغبة في الهرب من الحاضر، واستخلاص دروس التاريخ التي يمكن أن يحملها الفيلم في طياته... فضلاً عن الجانب الجمالي،"طالما أن الفيلم التاريخي يكون عادة استعراضياً"حافلاً بالألوان والأحداث والشخصيات"عابقاً بالأزياء والإكسسوارات بحيث يمكن كل مشهد أن يساوي ألف لوحة تشكيلية". ولأن السينما لم تتوقف، منذ اكتشافها على يد الأخوين الفرنسيين لوميير، آخر القرن التاسع عشر، عن سبر أغوار التاريخ، سواء أكان تاريخ الأمم، والأحداث الكبرى، أم تاريخ الأفراد الكبار أو العاديين، وصولاً إلى تاريخ الذات عبر أفلام السيرة الذاتية... فإن السؤال المشروع في ضوء ذلك، هو: هل يمكن اعتماد هذه الشرائط وثائق تاريخية؟ يقدم العريس جواباً سريعاً، إذ يقول"لا يمكن الكاميرا أن تكون حيادية"، ويردف جوابه بسؤال: هل يمكن أن نعتبر كتب التاريخ نفسها، السلف الحقيقي للسينما التاريخية، مصدراً صادقاً ونهائياً لرواية التاريخ؟ الجواب، هذه المرة، يأتي من الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون:"لو كانت الحجارة تنطق لبدا التاريخ كله كذبة كبرى". في هذا المعنى، فإن السينما حين تؤرخ لتاريخ البشرية، فإنما تعيد رسمه وفق ما يراه صناع الفيلم، تماماً كما هي الحال بالنسبة الى التاريخ الذي سطِّر وفق مزاج المدونين ورؤيتهم. قسم مؤرخو السينما تعامل الفن السابع مع التاريخ إلى ثلاثة أقسام: التاريخ الجمالي، التاريخ البراغماتي، التاريخ النقدي. البعد الأخير أي التاريخ النقدي أو الأيديولوجي لم يظهر إلا في وقت متأخر، نسبياً، وتحديداً مع ولادة فن التوليف المونتاج مع المخرج الروسي سيرغاي ايزنشتاين صاحب فيلم"المدرعة بوتمكين"1925. وكان الأميركي غريفيث قد سبقه إلى التاريخ، ولكن في بعده البراغماتي حين حقق"مولد امة"، ومن قبله"التعصب"في أواسط العقد الثاني من القرن العشرين متبعاً في هذا خطى الايطالي باستروني الذي حقق في 1914 واحداً من الأفلام الضخمة في تاريخ السينما وهو"كابيريا". والواقع أن هذا الفيلم الأخير، كما يستنتج العريس، وفيلمي غريفيث، وفيلم ايزنشتاين تحمل، معاً، مجتمعة أو متفرقة، كل الأبعاد الجمالية والبراغماتية والنقدية. التاريخ، إذاً، بكل مساراته الحادة والملتوية والصاخبة كان هدفاً للسينما التي ذهبت مرات كثيرة إلى الحروب لدرجة يعتقد معها المراقب بأن السينما تبدو كأنها سجلت الحروب كلها منذ أقدم الأزمنة حتى اليوم. وهي في هذا التسجيل دانت بشاعة الحروب، وفضحت جنونها وعبثيتها، والسينما الأميركية، إلى جانب الأوروبية، هي التي برزت في هذا المجال، وعرفت كيف تحول الحرب إلى قضية فردية، كما في فيلم"إنقاذ الجندي رايان"لستيفن سبيلبرغ، الذي يعد المثال الأكثر سطوعاً في هذا السياق. الحروب العربية، بدورها، وجدت مكاناً على شاشة السينما بدءاً من نكبة فلسطين 1948 مروراً بالعدوان الثلاثي على مصر، والثورة الجزائرية والنكسة وحرب تشرين الأول أكتوبر وصولاً إلى حروب الخليج... ويلاحظ العريس ان هذه الأفلام كانت ذات مستوى متواضع، إذ انطلقت دائماً من"هم أيديولوجي مرسوم سلفاً يتوافق مع ما تسميه العقلية القومية الحصيفة مصالح الأمة من دون التفات، بالطبع، إلى مصالح الفرد والمجتمع وأهميتها في تلك المعمعة". بيد أن الحرب اللبنانية في معظم ما حقق عنها من أفلام هي الوحيدة التي نجت من تلك الأبعاد. فهنا - كما يعتقد المؤلف - لم تعد الشوفينية ممكنة، ولم يعد اليقين وارداً. إنها حرب عبثية بدت في معظم لحظاتها من دون مبرر ومن دون نهاية، وكان المخرجون يبحثون في جنونها ذاك عن الأسئلة بلا أي أوهام أو بطولات. ويفرد العريس فصلاً مستقلاً لسينما المخرج الأميركي الإشكالي مايكل مور الذي خرق قاعدة مهرجان"كان"في دورته الپ57 حين نال عن فيلمه التسجيلي"فهرنهايت 11/9"السعفة الذهبية التي تمنح، عادة، للأفلام الروائية. ويرى العريس ان نجاح هذا الفيلم"الشبيه بپ"الريبورتاج التلفزيوني المصور والموثق جيداً"، جاء من خارج الفيلم لا من داخله، ذلك أن الفيلم ينتقد بحدة سياسات جورج بوش الذي يخاطبه مور في مستهل الفيلم المذكور بالقول:"لماذا لا تبحث لنفسك عن مهنة حقيقية؟". وعلى رغم اهتمام العريس ببريق السينما وأضوائها وصخبها، إلا أن كل ذلك لم يمنعه من البحث في الأماكن المعتمة"المنسية عن سينمائيين هامشيين استطاعوا أن يحققوا النجاح بإمكانات بسيطة، ووسط ظروف قاسية ومضنية ثم رحلوا بصمت لترحل معهم أحلام سينمائية كبيرة، بعدما حققوا الكثير من المشاريع السينمائية الخالدة. ومع ذلك، فإن الفضائيات الكثيرة تستنكف عن عرض أعمالهم، والمهرجانات المنهمكة بالنجوم والأضواء والبذخ تنسى إسهاماتهم. إلا أن العريس، الذي يتقن الفرز بين غث السينما وسمينها، يعيد لهم بعض الاعتبار هنا في هذا الكتاب. فنراه يذهب إلى أميركا اللاتينية ليختار من البرازيل المخرج غلاوبر روشا، أحد مؤسسي تيار سينما"نوفو"وكبار منظّريه. ومن هناك يعود العريس إلى شرق الأناضول حيث خرج السينمائي الكردي المبدع يلماز غوني الذي أنجز خلال عمره القصير 47 عاماً ما يفوق طاقة فنان، ولعب أدوار البطولة في عشرات الأفلام، وكتب السيناريوات، وعدداً من الروايات، وكان ناشطاً في الحركة اليسارية التركية واعتقل مرات عدة. والى جانب هذه المشاغل والهموم، فإن إسهامه الأبرز تمثل في إخراج أفلام ستبقى في الذاكرة طويلاً، مثل:"القطيع"،"الجدار"،"الأمل"... وغيرها، وصولاً إلى"الطريق"الذي نال سعفة مهرجان كان مطلع ثمانينات القرن الماضي. من تركيا إلى السويد نتعرف إلى قراءة نقدية معمقة لسينما السويدي الكبير انغمار برغمان صاحب"التوت البري"، وپ"برسونا"، وپ"ساعة الذئب"، وپ"همس وصراخ"، وپ"الصمت"... وغيرها من الأفلام التي زاوجت بين الفكر والعاطفة، وطرحت مشكلات الوجود الإنساني والعلاقات الإنسانية، طرحاً فلسفياً لا يخلو من جماليات السينما. وبعد ذلك نتعرف إلى سينمائي هامشي آخر هو جون كاسافتس، أحد رموز السينما الأميركية المستقلة، الذي قدم أفلاماً بسيطة تنطلق من يوميات الفرد. ومن الهند سنعثر على اسم غرد خارج سرب بوليوود، هو ساتيا جيت راي الذي أدار ظهره لميلودراما الأفلام الهندية الساذجة ليقول في سينماه إن ثمة قضايا إنسانية جادة، وثمة عواطف متزنة، وكذلك الحال بالنسبة إلى السينمائي الأرمني بارادجانوف الذي لم ينظر إلى السينما إلا بصفتها تعبيراً عن الروح الداخلية، وعن دور الفنان في الحياة، فخرج، إبان الحقبة السوفياتية، من"قوقعة السينما الممتثلة إلى رحابة الفن الكبير، وآمن دائماً بأن روح الشعب وأصالته هما المتن الحقيقي لعالم يحاول دائماً أن يهمشهما تحت وقع الأدلجة، والمحو المتواصل للفرد على حساب جماهير تمضي كالخراف"، كما يعبر المؤلف. وقبل أن ينهي العريس كتابه بتقديم لمحة سريعة عن أبرز التيارات السينمائية في العالم مثل الواقعية الجديدة الايطالية، والموجة الجديدة الفرنسية، والسينما الحرة في بريطانيا، وسينما نوفو في البرازيل... فإنه يتحدث عن تجارب تلفزيونية لعدد من كبار سينمائيي العالم مثل روسيليني، وفاسبندر، وسبيلبرغ، ولارس فون تراير، معتقداً بأن"حرب الشاشتين لن تقع".