على رغم البلايين الكثيرة من الدولارات التي حققتها افلامه خلال ما يقرب من ثلث قرن، ليس من السهل اعتبار المخرج الأميركي ستيفن سبيلبرغ واحداً من الأساطين الكبار في الإخراج السينمائي. من الصعوبة بمكان ان يضعه تاريخ الفن السابع الى جانب هتشكوك وبرغمان وفلليني وبخاصة اورسون ويلز وستانلي كوبريك، الذين قد يروق البعض تشبيهه بهما. فهو، بعد كل شيء ليس «مؤلفاً سينمائياً» بالمعنى الذي اقترحه النقد الفرنسي للكلمة في سنوات الخمسين. ومع هذا لهذا الفنان مآثر سينمائية اعطته، الى شعبيته الغامرة التي تجعله اشهر وأقوى سينمائي اميركي حيّ، مكانة اوسكارية وحضوراً في صالات الفن والتجربة وسمعة باهرة كمبدع مثير للسجال. طبعاً هذا كله لم يشفع له حين اختير فيلمه الأخير «لنكولن» مرشحاً لجوائز اوسكار عدة في الدورة الأخيرة لجوائز الأكاديمية، فكان عليه ان يكتفي، بخاصة، بجائزة افضل ممثل نالها، تحت ادارته، دانيال داي لويس. هل تراه حزن لهذا؟ ام انه، على عادته، لم يبال كثيراً؟ لن يعرف احد تماماً. غير ان ما كان من شأنه ان يُشعر صاحب «ميونيخ» و «إنقاذ المجند رايان» بشيء من المرارة، كان في مكان آخر: في الهجومات التي راحت تُشنّ عليه في الوقت نفسه إذ أعلنت إدارة مهرجان «كان» السينمائي الفرنسي، الذي يعقد دورته الجدبدة في أيار (مايو) المقبل، انه سيكون رئيساً للجنة تحكيم المسابقة الرئيسة في المهرجان... هنا، حتى وإن كنا لا نعتبر سبيلبرغ واحداً من اعظم عشرة سينمائيين في تاريخ هذا الفن، لا يمكن ابداً ان نناصر تلك الهجومات التي بدت، على الفور واهية، تحاسب الرجل سياسياً بالأحرى مستكثرة عليه ان يشغل في «كان» مهمة شغلها من قبله دافيد كروننبرغ او رومان بولانسكي او امير كوستوريتسا، او حتى كلينت ايستوود او كاترين دونوف وايزابيل آدجاني!! بين الفن والترفيه إذاً، منذ كان الإعلان «الكانيّ» والمواقع الإلكترونية التي صارت في زمننا هذا بديلاً من الصحافة الصفراء، تهاجم سبيلبرغ والمهرجان. لن تهزّ الهجومات ثقة المهرجان بالمخرج ولا ثقة المخرج بنفسه، تماماً كما ان الذين سينبرون للدفاع عنه، لن يضيفوا الى قيمته الفنية شيئاً. فعلى مدار عقود من السنين، منذ «مبارزة» الى «لنكولن» تمكن سبيلبرغ من ان يبدع متناً سينمائياً شديد التنوع يتأرجح بين الأعمال التجارية الترفيهية والأفلام الفنية او التاريخية اللافتة. الى الصنف الأول تنتمي طبعاً سلاسل «انديانا جونز» و «الفك المفترس» وأفلام الديناصورات... فيما تنتمي الى الصنف الثاني افلام حاول فيها سبيلبرغ ان يكون جدياً من دون ان يكون مملاً، في الوقت الذي حاول ان يكون متوازناً في مواقفه السياسية من بعض القضايا التي تناولتها افلامه. ولعل في مقدم هذه القضايا قضية السود الأميركيين، التي قبل ان يصل الى ذروة تعبيره عنها في فيلمه الأخير «لنكولن» من خلال سرد فصل من آخر ايام هذا الرئيس الأميركي الذي حمل عبء اعطاء الزنوج حريتهم وكرامتهم حتى ولو كان الثمن حرباً اهلية عاصفة انتهت باغتياله – كما يقول لنا التاريخ ويروي الفيلم بنزاهة تامة -، قبل ان يصل الى هذه الذروة كان سبيلبرغ دنا من القضية نفسها مرتين على الأقل: الأولى من خلال فيلم «امستاد» والثانية والأهم من خلال «اللون القرمزي». يومها كان الأفارقة الأميركيون قد اثنوا على جهود سبيلبرغ واعتبروه واحداً منهم. ومثلهم فعل اليهود الأميركيون في خضم ذلك، حين حقق واحداً من اكثر الأفلام خدمة لما يعتبرونه «الذاكرة» متحدثاً عن «الهولوكوست» من خلال حكاية رجل ألماني تمكن من انقاذ أعداد كبيرة من يهود بولندا من المحرقة... يومها أتبع سبيلبرغ فيلمه بإقامة متحف اميركي للهولوكوست فازداد رضا اليهود، من اميركيين وإسرائيليين وغيرهم، عنه. غير ان ذلك الرضا سرعان ما اضمحل حين حقق المخرج فيلماً تالياً له دنا فيه من «هموم» اسرائيل. كان ذلك فيلم، «ميونيخ» الذي صوّر فيه العمليات الإرهابية التي قامت بها الاستخبارات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين رداً على عملية ميونيخ الإرهابية بدورها. والحقيقة ان هذا الفيلم بدا من القسوة والرغبة في التوازن الى حد انه اثار حنق اليمين الإسرائيلي والسلطات الإسرائيلية في شكل عام، من دون ان يجد لمخرجه شفعة لدى الصحافيين والمتفرجين العرب الذين اعتبروه «صهيونياً». وطبعاً لن نعود هنا الى ذلك السجال... فقط نذكّر بأن الرأيين لم يهزا قناعة سبيلبرغ، بل واصل طريقه محققاً سينماه المتفاوتة الجودة والجدية مصرّاً على انه سينمائيّ اولاً وأخيراً وليس لا مؤرخاً ولا منظّراً سياسياً، وأن همه الأول هو الإنسان الى اي فكر انتمى. سينما للإنسان الطفل والحقيقة ان سبيلبرغ لم يكن مخطئاً في تشخيص سينماه واهتماماته فيها، ذلك أننا اذا ما بحثنا عن الفكر الذي يقف حقاً وبقوة خلف افلامه، جدية فنية كانت او ترفيهية استعراضية، سنجد دائماً ان المكانة الأولى فيها محجوزة للإنسان، وربما غالباً من منظور طفولي. ولعل حسبنا هنا ان نذكّر بكم ان الأطفال حاضرون في سينما سبيلبرغ، كمتفرجين مأمولين على هذه الأفلام من ناحية، او حتى كشخصيات اساسية فيها من ناحية ثانية... ولعل هذا الاهتمام بالأطفال ومحاصرة عالم الكبار لهم، بعنصريته وحروبه وصنوف الكراهية والعنف، يلوح في بعض اجمل افلام سبيلبرغ، من «امبراطورية الشمس» عن رواية لجي جي بالارد، الى «اللون القرمزي» التي تنطلق من حكاية اختين مراهقتين زنجيتين... وصولاً الى «تان تان» الفيلم الذي اقتبسه سبيلبرغ قبل عامين عن شرائط البلجيكي/الفرنسي هرجيه المصورة، كبداية كما يبدو لسلسلة ستتواصل... وهنا، يقودنا حديث حضور الأطفال في سينما سبيلبرغ الى راهنه الفني.. وذلك مروراً بفيلمه «الذكاء الاصطناعي» الذي كان حققه عند بداية تسعينات القرن الفائت عن رواية لكاتب الخيال العلمي برايان آلديس... فلماذا هذا الفيلم؟ بالتحديد لأن سبيلبرغ ورثه عن زميله المخرج الذي كان رحل حديثاً في ذلك الحين، ستانلي كوبريك، محققاً اياه انطلاقاً من سيناريو كان عبقري السينما وصاحب «اوديسا الفضاء» و «باري لندون» بين روائع اخرى، أعدّه للتصوير. وحين مات كوبريك من دون ان يحقق ذلك المشروع الذي كان غالياً عليه، احس سبيلبرغ ان في امكانه هو ان يحققه ففعل. وما إن عرض الفيلم يومها حتى هاجمه نقاد كثر قائلين ان صاحبه اساء الى تراث كوبريك؟ هل تراه اساء اليه حقاً؟ لا يمكن الإجابة هنا بشكل قاطع، ولكن من المؤكد ان سبيلبرغ غير كوبريك. الى فرنسا ايضاً لكن تلك المقارنة لا تبدو الآن وكأنها اوهنت من عزيمة سبيلبرغ... فالرجل معروف بنزاهته الفنية كما بحبّ للسينما يجعله قادراً على ادراك قيمة كوبريك الكبرى... ثم وكأن لسان حاله يقول: طالما ان كوبريك رحل عن عالمنا، تاركاً مشاريع كثيرة لم يتمكن من تنفيذها، نجدنا اليوم امام واحد من احتمالين، فإما ان نرمي تلك المشاريع في أدراج النسيان في انتظار مجيء عبقري آخر من وزن كوبريك، وإما ان نُقْدم فلنا أجر واحد. وانطلاقاً من هنا، ها هي الأخبار تفاجئنا اليوم بأن سبيلبرغ سوف يُقدم خلال المرحلة المقبلة على تحقيق عمل ضخم جديد له، ولكن للشاشة الصغيرة هذه المرة. والحال ان الأمر يبدو مفاجئاً، ليس لأن سبيلبرغ سيشتغل للتلفزة، فهو سبق ان كانت بداياته فيها ولها ولم ينقطع عن التعامل معها. المفاجأة هي ان المشروع العتيد مشروع كوبريكي آخر. بل لعلنا لا نكون مبالغين ان قلنا انه المشروع الأكثر اسطورية وضخامة وصعوبة من بين عشرات المشاريع التي كان كوبريك يضطر الى تأجيل تحقيقها عاماً بعد عام. بل ان هذا المشروع صار اسطورياً حتى خلال حياة كوبريك، وبات يعتبر اشهر و «اعظم» فيلم لم يحقق في تاريخ السينما. وما نتحدث عنه هنا هو طبعاً مشروع «نابوليون» الفيلم/الحلم الذي كان لا يكف عن مراودة كوبريك وشغل ايامه وأحاديثه منذ نجاحاته الأولى. وهو دائماً ما كان يؤجله، إما لصعوبة التنفيذ وإما لضخامة الإنتاج وبالتالي تعسّر التمويل. ونذكر ان المشروع بات من الشهرة والأسطورية الى درجة انه حين اصدرت دار «تاشن» الألمانية كتاباً ضخماً متعدد اللغات في ألوف الصفحات يتضمن السيناريو والمخططات والرسوم التي وضعها كوبريك له، نفدت الطبعة الأولى بكاملها مع ان ثمن النسخة منها 500 يورو!! هذا هو إذاً، آخر جديد سبيلبرغ... وهذا هو اهتمامه بإحياء تراث سلفه الكبير، مهما سيكون رأي النقاد... اما لماذا للتلفزيون وليس للسينما فأمر يطول حديثه، كما يطول في الحقيقة حديث المشروع الذي سنعود اليه مراراً وتكراراً كما سوف يفعل غيرنا. وفي انتظار ذلك ننتظر كيف سيكون أداء سبيلبرغ في تحكيم مسابقة «كان» تلك المهمة التي ها هي تقرّبه اكثر وأكثر من فرنسا، هو الذي كان اثار دهشة كبيرة حين اقترب منها من خلال عمله على «تان تان»، ثم ها هو يقترب اكثر من خلال قبوله، بعد سنوات من التردد، بأن يكون على رأس محكمي مهرجانها السينمائي الكبير.