إذاً مات الشعر، ومات الجمال، وماتت فلسطين، وماتت اللغة العربية والعروبة! وإن لا... فماذا تبقى الآن؟ هل تبقى سوى النزاعات الموجعة الدامية بين الإخوة الأعداء؟! وهل يُسمع سوى الصراخ والعويل والنزيف بينهم؟! هل بقي سوى الشعر والأمل الذي يوقظه الكلام الجميل؟! كان محمود ينبوعاً متدفقاً لا ينضب في زمن الجفاف، ففي كل عام أو عامين يصور له كتاب أي كتاب قادر أن يذكرنا بأن فلسطين التي تضيع لن تضيع ما دام هناك جديد متواصل من هذه الهبة الإلهية الخارقة ينعشنا في زمن الموت أكثر من أي زعيم سياسي أو عربي بارع في الخطابة. كان محمود درويش قادراً ولعله الوحيد الذي كان يملك هذه الموهبة أن يحرّض في قرائه هذه الثقة العجيبة بأنه ما دام مثل هذا الشاعر على قيد الحياة فإن قضيته لن تموت بالتأكيد. ليست هذه موجة من الجموح العاطفي تأخذني. انني يائس بالفعل، ومع ذلك فأنا محكوم بالأمل كما قال المرحوم الجميل الآخر سعد الله ونوس -. وهذا الأمل لا تحركه"حماس"أو"فتح"أو أي منظمة أخرى. ان النزاع الأخير الذي يمزق الصف الفلسطيني يمزقني ويمزق معي أمل المحكومين به كما قيل. غير ان القلب الكبير توقف الآن وقد عجز الطب الحديث المتقدم عن إنقاذه، فما علينا الآن سوى أن نحني الرأس واجمين كي نقاوم اليأس المطبق. إن الجمال مصابٌ يترنح الآن كي يترك مكانه للبشاعة وليس أمامنا كما يبدو لي سوى ما تركه محمود درويش من أشعار يجب أن نخلو اليها كي نعيد قراءتها صامتين إذ ليس أي كلام آخر قادراً على تعزيتنا وتحريض الأمل المهدد في وجداننا، لقد رثى محمود نفسه قبل أن يرثيه الآخرون وها هو الآن يبدع"جدارية"أخرى لن يستطيع أي شاعر أن يكتب مثلها. جدارية لأمتنا بأكملها، ليس سوى ذكرى محمود درويش صدىً لها معينٌ بحق على الاحتفاظ بالشعلة الذابلة الأمل... أمل العرب بألا يخرجوا كالهنود الحمر من التاريخ... رحمة الله عليك أيها الشاعر الذي لن يتكرر ! ..