عندما كتب محمود درويش "الجدارية"، كان شاعراً يكتب وصيته الأخيرة. وفي حواره مع الموت بدا كأنه يقول آخر ما يريد قوله. كيف لا؟ وقد وقف وجهاً لوجه أمام الحقيقة الوحيدة التي تحيل كل حقائق الدنيا الى أوهام. في "الجدارية" خرج محمود درويش عن كل ايديولوجيا، وعن كل قضية، مهما بلغت أهميتها ومركزيتها، فهي تبقى جزئية في عالمنا اللامحدود في الزمان والمكان إلا بالموت. فكان شعره شعراً عالمياً يصدق في أدغال أفريقيا وفي صحاري الشمال المتجمدة، وفي مواطن حكمة الشرق الى ما بعد الهند والصين. كانت جداريته خالدة: الحكمة تقرأ مع أساطير الأولين، ومع الشعر الجاهلي، وتنسحب على حكمة أحيقار ومزامير سليمان وتعاليم بوذا. ولا يبلغ شعر أشده حتى يصبح عالمياً، يُقرأ في كل زمان ومكان. ولأن موضوع الشعر هو الأحوال القصوى، فقد كان الموت حال الأحوال جميعاً، فاحتضن داخله الحب والحرية والخلود والجمال والحكمة الخالصة. لم أكن أعتقد أن محمود درويش سيكتب بعد جداريته. لكنه فعلها، وعاد الى قضاياه الصغيرة: فلسطين والحصار والأحلام والحياة اليومية الموقتة بحكم الظرف، مثل حكيم بوذي بلغ النيرفانا، وحاز الخلاص، ثم اختار ان يعود مرة أخرى، لينهي حياة تُعد، ويعيش حياة تُخلّد. أورليان فرنسا - شادي العُمَر