أعتقد أن الإنجاز الشعري لمحمود درويش إنجاز بالغ التفرد، نادر المثال، في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فلا أظن شاعراً عربياً شغل الدنيا والناس مثلما فعل محمود درويش بشعره الذي ظل مخلصاً له، متفانياً في رسالته مقدماً إياه على أي شيء آخر، فالشعر كان سر وجود محمود درويش وحضوره الفذ الذي جذب إليه الآلاف المؤلفة من مستمعي الشعر وقرّائه ومحبيه وعلى رغم كل ما قلت، ولا أزال، عن زمن الرواية الصاعد والمتدافع في آن، فإن جماهيرية محمود درويش كانت تؤكد الاستثناء، وتكسر كل القيود في الذيوع والانتشار. ولقد عاينت ذلك بنفسي، وشهدته في أكثر من مكان، ورأيت احتفاء الجماهير بمحمود درويش الذي تحول إلى رمز وعلامة. والمؤكد أن شعره السهل الممتنع، بالغ العمق والشفافية، جعله قريباً من محبي الشعر ومتذوقيه، وهم كثر على امتداد الأمة العربية التي لا يزال الشعر ديوانها وفخرها. ارتبط محمود درويش بالقضية الفلسطينية، وبقي شاعرها الأكبر، وذلك إلى الدرجة التي يمكن أن نقول معها إن زمن هذه القضية في تصاعدها، قبل انقسام الإخوة الأعداء، هو زمن محمود درويش، كما أن زمن محمود درويش هو زمن هذه القضية في وحدتها وعدالة أهدافها واستنارة فكرها وتجدد وعيها بحضورها المناقض للإظلام أليس هو القائل «الهوية هي ما نُوَرِّث لا ما نرث ما نخترع لا ما نتذكّر الهوية هي فساد المرآة التي يجب أن نكسرها كلما أعجبتنا الصورة» ولذلك كان ضد صراع الإخوة الأعداء، وضد تديين القضية الفلسطينية الذي أفضى إلى قتل الفلسطيني بيد أخيه لا عدوه، باسم تعصب ظلامي لا علاقة له بالدين «هل يعرف من يهتف على جثة ضحيته - أخيه الله أكبر إنه كافر، إذ يرى الله على صورته هو أصغر من كائن بشري سوي التكوين». وأضاف إلى ذلك قوله «أنا والغريب على ابن عمي وأنا وابن عمي على أخي وأنا وشيخي علي هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام» لقد ظل محمود كارهاً أقبية الظلام، تواقاً إلى الآفاق الطليقة اللا نهائية لكل الأنوار التي تعني وطناً علمانياً ديموقراطياً، يتآخى فيه اليهود والمسلمون والمسيحيون ولم يتخلَّ عن حلم هذا الوطن الذي كان يتلازم، في ذهنه، مع الإيمان بدولة مدنية، تقوم على المواطنة الحقة، لا تساوم فيها أو عليها طليعة الدعاة لها ولذلك اختلف مع ياسر عرفات، وأطلق عليه ملك الاحتضار وآثر حريته الإبداعية على أي ارتباط رسمي، وظل شاعر القضية الحر في زمنها الذهبي الذي أصبح زمنه، رافضاً كل التنازلات والانشقاقات، معادياً دعاوى الإظلام التي عادت كل ما ظل معتزاً به، حريصاً عليه. وبقدر ما احتفى محمود بحرية إبداعه الشعري الذي أتاح له أن يضع كل شيء موضع المساءلة، في المساء الأخير على هذه الأرض، فإن الجماهير المحبة للشعر قابلت إخلاصه لحرية الشعر وعدالة قضيته بالحفاوة نفسها، ورأت فيه الهدهد الذي يأتيها من وراء الغيم بالنبأ اليقين، فظل يرى ما يريد، ويكشف للمحبين لإبداعه عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف، منجزاً ما لم ينجزه غيره في الإبداع الفلسطيني، بل ما لم ينجزه إلا الندرة القليلة من شعراء العالم كله. وكانت العلامة الأولى أنه استطاع أن يغوص بشعره في عمق الجرح الفلسطيني، نافذاً منه، شيئاً فشيئاً، إلى عمق الجرح الإنساني، وذلك على نحو قارب بين القمع الواقع على الفلسطيني والقمع الواقع على الإنسان، مسلوب الحق، في كل مكان، فأحال شعر القضية الفلسطينية إلى شعر القضية الإنسانية في وجود لا يفارقه القمع من كل صوب وحدب، وقاده ذلك، في النهاية، إلى مأساة الإنسان الذي يواجه مصيره الوجودى عارياً من كل شيء، يخايله الموت بكل صوره في كل مكان، فلا يستطيع مقاومته إلا بالإبداع الذي ينقل الوجود من الغياب إلى الحضور، والإنسان من مواجهة الموت إلى مواجهة الحياة، والطبيعة من مواجهة اللا معنى إلى التمسك بالمعنى وما أكثر الأشكال التي تجلى بها عاشق من فلسطين ليصل إلى أن يكون رائياً وكاشفاً عن الذي لا يرى، آتياً بما لا يعلم به أحد، ماكراً، مراوغاً مثل لاعب النرد لكنه ظل يحمل هموم الإنسان التي تبدأ من وطنه السليب، لتمتد إلى أقصى مكان في الأرض، فقهر الإنسان أخاه الإنسان هو نفسه، جوهرياً، في كل مكان، وريتا الإسرائيلية هي كل النساء المخدوعات بأوهام العسكر القتلة، دعاة الأكاذيب التي يشيعونها حولهم، مجتذبين إليهم الأبرياء حتى من اليهود الذين يقعون تحت طائلة الاستغلال، فلا تملك النزعة الإنسانية، في الشاعر الذي عانق القيم الإنسانية الجوهرية، سوى أن تكتب كلماتها حتى على ضوء بندقية، أو بحثاً عن امرأة من سدوم، يأخذ الموت على جسمها شكل المغفرة، ولا فارق، في الجوهر، بين الفلسطيني شهيد الظلم وكل شهداء الظلم في العالم والنتيجة وصول شعر محمود درويش إلى القراء في كل مكان، عبر لغات العالم، وأصبح الشعراء المقاومون للقمع في كل أرجاء الدنيا أشقاء وأصدقاء له، وأصبح هو صديقاً ورفيقاً لهم في كتابة شعر ينتزع الحرية من الضرورة وأعتقد أننا لم ننسَ هذا الوجه من محمود درويش عندما منحنا جائزته التي أعلنت يوم ميلاده في الثالث عشر من آذار (مارس) الماضي لكاتبة عربية وقفت، دائماً، إلى جانب الحق الفلسطينى بخاصة، والإنساني بعامة، هي أهداف سويف، ولشاعر من شعراء المقاومة في جنوب أفريقيا، لم يكن محباً لمحمود درويش فحسب، وإنما كان مثله مقاوماً الشرَّ، منتزعاً الحضور من الغياب. أما العلامة الثانية لإنجاز محمود درويش الإبداعي، فهي أنه ظل يقظ الوعي بحتمية الاستيعاب الكامل لكل متغيرات العصر، خصوصاً المتغيرات الإبداعية التي كان يتابعها متابعة جادة، قرينة حرصه على التجدد والإفادة من كل المنجزات الإبداعية في العالم، مدركاً أن الشاعر الفلسطينى ينتسب، في النهاية، إلى طليعة الشعراء في العالم، لا فارق بينهم على أساس من جنس أو دين أو عقيدة، أو لغة، فالمهم هو الهدف الإنساني العظيم الذي يجمع بينهم، ابتداء من شهوة إصلاح العالم، وانتهاء بتغييره، أو على الأقل إشاعة وعي تغيير إلى الأفضل عند القراء الذين لا يفارق الشعر لديهم صفة مقاومة نقائض الحق والخير والجمال ومن المؤكد أن هذه المتابعة، جنباً إلى جنب الوعي النقدي بعلاقة الشاعر بحضوره الذاتي، فضلاً عن علاقته بالقراء، هي التي كانت وراء حيوية التجدد والتغير في شعر محمود درويش فقد أدرك، منذ زمن طويل، أن تغيير الواقع بالإبداع لا بد أن يبدأ بتغيير سُدى الإبداع الموروث ولُحْمته، وأن مساءلة الأداة الشعرية عملية لا تتوقف أو تنقطع، فالإبداع الثائر على الضرورة مضمون وشكل معاً، ووضع الذات المبدعة موضع المساءلة أمر لا يقل أهمية عن وضع أدواتها الموضع نفسه، فالتمرد الإبداعي على واقع الضرورة، يفقد حيويته إذا سقط في شباك الضرورة والتكرار، فتوهجه قرين تمرده حتى على نفسه في موازاة تمرده على الواقع الذي يوازيه رمزياً. ولذلك ظل شعر درويش متوثباً بعافية الخلق ونضارة التجدد وما أبعد الفارق بين غنائيات عاشق من فلسطين وتأملات الدواوين الأخيرة، إلى القصائد التي جمعت بعد موته، تحت عنوان لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، فالفارق هائل بين البداية والنهاية، على رغم الوحدة الشعرية الفريدة لجوهرة الإبداع التي ظلت متقدة، لكن تتجلى في كل مرحلة بمجلى مغاير، وهي صفة أكدت تعدد شعر محمود درويش، وتباين صور التغير الذي لم يفلت ارتباط القضية الفلسطينية بقضية الوجود الإنساني، فالصور متعددة والروح واحد، لا يكف عن التغير والتجدد من حيث هما قانونا الوجود والصيرورة الخلاقة للإبداع ولذلك لم يقع شعر محمود درويش في آفة التكرار الذي وقع فيها غيره ولا يزال شعره ينتقل بقارئه عبر دواوين شعرية مغايرة المعاني في الظاهر، متحدة أو متقاربة في معانيها الكلية في الباطن وحتى صور الشاعر التي يرسمها لنفسه تتعدد وتتكاثر، لكن تبقى صفات العاشق، الرائي، الشاهد، المتأمل، الضحية، الرافض، صاحب الرسالة الذي لا يكف عن إيقاظ أهل الكهف باقية صحيح أن التأمل الذاتي غلب على الدواوين الأخيرة التي أصبحت حدقتا العينين فيها أشد تركزاً على العالم المنعكس، رمزياً، في الداخل الذي ترى من خلاله، لكن يقظة هذه الحدقة كانت موجودة منذ البداية من حيث غلبة الصور البصرية. ولا بد أن أعترف أنني كنت لا أرضى عن قصائد محمود درويش الخطابية التي كانت موجودة في البدايات، وكنت لا أرتاح، كثيراً، لبناء القصيدة الذي كان ينفرط بلا إحكام بنائي في حالات كثيرة ولكن مع تعمق التجربة الإبداعية في وعي محمود درويش واستمرار غوصها في الأعماق، سعياً وراء اكتشاف تقنيات جمالية أكثر فاعلية، أخذ انجذابي إلى شعره يتزايد، خصوصاً مع ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً» (1995) وقد صدر بعد أن استضفته ليلقي شعره في المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة ولاحظ أغلبنا، وقتها، أن المنحى الشعري قد تغير، وأن الخطابية انتهت، ومعها النبرة العالية، وانضبط بناء القصيدة التي أصبحت أكثر همساً، وأقل وضوحاً للإيقاع، وأكثر تأملاً وقصراً في الوقت نفسه وعندما صدرت «جدارية» (عام 2000) كان شعر محمود درويش وصل إلى أولى ذري تميزه النادر، وأن تجربة المرض، والعملية الجراحية التي واجه فيها الموت، ورآه رأي العيان، قد صهرت شعره كما تصهر النار المعدن الآبي على النار، فيخرج أكثر صلابة. هكذا كانت «جدارية» تسجيلاً إبداعياً، وتصويراً استثنائياً لانتصار الإبداع على الموت، وانتزاع الحضور من الغياب وكانت علامة مضافة على تحول الشعر من الخارج إلى الداخل، ومن تصوير الوقائع الخارجية إلى استبطان الحالات الوجدانية، وزادت النزعة التأملية، وظهرت تقنيات القرين، وانشطار الذات، والظل، والمرآة، وتداخلت الأزمنة والأمكنة في أزمنة الشعور التي أسقطت جدران الأماكن والأزمنة والمنطق العملي للأشياء والكائنات ومن يومها، ظهر في شعر محمود درويش ما أجرؤ على تسميته، الآن، شعرية الموت، فقد أصبح الموت موضوعاً للقصيدة والتأمل على السواء، كأنه الحتم الذي يقلب الحضور إلى غياب، والحياة إلى فناء، والكتابة إلى محو للكتابة وظل الموت حاضراً، دائماً، في دواوين محمود الأخيرة، يراه في موت الأصدقاء، مثل أمل دنقل وممدوح عدوان وغيرهما، وتراه عين الشاعر حضوراً قابلاً للاحتمال، للانقضاض، للنفاذ إلى الوجود وظل الإبداع يواجه الموت بتأمله، كما لو كان الشاعر يصنع صنيع «برسيوس» الذي قضى على «الميدوزا» التي يموت كل من يتطلع إليها، بأن صنع درعاً صقيلاً كالمرآة، وتقدم إلى الميدوزا محتمياً بقناعه الذي تطلعت إليه الميدوزا، فسقطت ميتة. وكان درع محمود درويش في مواجهة الموت هو الشعر المتأمل المحدّق في الموت، كي ينتزع الحياة منه وظل هذا الشاعر مقاوماً، متوهجاً، متأملاً في الكائنات والأشياء، مجسّداً المجردات، مؤنسناً المعنوي، مضفياً على الجوامد حياة مجازية وبرز الرمز على نحو أكثر تزايداً، مقروناً بنوع من الكنايات التي سرعان ما تتحول إلى استعارات، ويشبه الشعر النثر، لكن دون أن يفقد إيقاعه العروضي الذي أصبح أكثر مراوغة بزحافاته وعلله، وأعقد موسيقى في همسه المتصاعد اللائق بالتأمل ولذلك حمل ديوان «أثر الفراشة» ظاهرتين مضافتين: أولاهما اجتلاء القصيدة لنفسها، في موازاة الذات الشاعرة المتأملة في وجودها الذي أصبحت تراه في الداخل لا الخارج، وثانيتهما الرسم بالكلمات، حيث أصبحت عين الشاعر تنافس عين الرسام، لكن بوسيلتها الخاصة التي تتحرك بفرشاة المجاز والكناية والتشبيه، فأخذ المشهد المرسوم شعرياً يكتسب دلالة جمالية، مراوحة بين الرمز الذي يستبطن معناه الإنساني، إلى جانب معناه المقترن بالقضية الفلسطينية.