يكتب الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في كتابه "معاً" أن العلاقة بين شمال البحر المتوسط وجنوبه من أولويات سياسته لأن حوض هذا البحر ساحة حرب وساحة تعاون، فيه تتصادم الحضارات. وفيه كل ماضيها. فيه نكسب كل شيء أو نخسر كل شيء. ويوجه نقداً الى الشراكة المتوسطية التي عقدت مؤتمرها في برشلونة منذ أكثر من عشر سنوات وما زالت مقرراته حبراً على ورق. للخروج من هذا الجمود يقترح ساركوزي أن تبادر فرنسا وايطاليا والبرتغال واسبانيا واليونان وقبرص الى العمل لإنشاء اتحاد متوسطي. ويتصور أن هذا الاتحاد كفيل بتسوية كل المشاكل المستعصية على الحل بين ضفتي المتوسط، بدءاً من العلاقات الأوروبية مع تركيا، وايجاد حل للصراع الفلسطيني - الاسرائيلي الى الهجرة والتنمية. ويتابع تصوره للاتحاد فيقترح"مجلساً متوسطياً"على غرار المجلس الأوروبي وإنشاء مصرف للاستثمار، وتعاوناً لمكافحة الفساد والجريمة والإرهاب. أين الولاياتالمتحدة من الاتحاد المتوسطي؟ ما موقف أوروبا غير المتوسطية، خصوصاً بريطانيا والمانيا منه؟ وهل يستطيع هذا التجمع تجاوز الصراعات بين دوله وشعوبه، وينطلق قبل ايجاد حل للمسألة الفلسطينية وهي جوهر هذه الصراعات؟ الواقع أن ساركوزي حاول، منذ وصوله الى السلطة، التحرك لبناء علاقات جديدة، خصوصاً مع دول الاتحاد المغاربي، وعقد بعض الصفقات التجارية في ليبيا والجزائر، كما حاول الموازنة بين تعاطفه مع اسرائيل وتأييده إقامة دولة فلسطينية، وبدأ الانفتاح على سورية لكنه تراجع عندما اصطدم برفض أميركي، ثم عاد الى الانفتاح عليها، بعدما سهلت انتخاب رئيس لبناني، وأعلنت عقدها مفاوضات مع اسرائيل بوساطة تركية، ودعا الرئيس السوري بشار الأسد الى باريس، طامحاً الى عقد لقاء بينه ورئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود أولمرت، فأغضب حلفاءه الداخليين وواشنطن، لكن حتى لو تم هذا اللقاء فسيكون شكلياً لأن السوريين يصرون على وجود الولاياتالمتحدة"شريكاً"في أي مفاوضات مباشرة مع الدولة العبرية، أولاً كي يضمنوا أي اتفاق يمكن التوصل إليه، وثانياً كي يضمنوا انفتاح واشنطن عليهم، مع ما يعنيه ذلك من رفع للعقوبات عن دمشق، ووقف التحريض على النظام ومحاولة محاصرته من الداخل والخارج، مرة بتهمة مساندة الارهاب في العراق وفلسطين، ومرة تحت شعار تصدير الديموقراطية، أو الاستخدام السياسي للمحكمة الدولية المكلفة النظر في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري. بمعنى آخر، ما زالت سورية وكل الدول العربية التي تدعو الى دور فرنسي أوروبي لتسوية مسألة الشرق الأوسط ترى الى هذا الدور عاملاً مساعداً، وتدرك تماماً أن أي حل، إذا حصل، لن يعمر طويلاً، خصوصاً إذا لم يأخذ مصالحها الشرق أوسطية في الاعتبار. ساركوزي يدرك هذا الواقع لذا جاهر بسعيه الى تعميق العلاقات مع الإدارة الأميركية قبل وصوله الى الحكم. وما زال يحاول استعادة دور فرنسا في أوروبا والشرق الأوسط، بالتعاون مع واشنطن. لكنه لم يتعرض لامتحان متانة علاقاته. وعليه مراجعة تجربة الرئيس السابق جاك شيراك الذي حاول في التسعينات أن يلعب دوراً في المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية فاتهمه الأميركيون والاسرائيليون بالانحياز الى الفلسطينيين ووضعوا حداً لدوره. ولا شيء يمنع تكرار الأمر ذاته مع خليفته، سواء حاول التأثير في المفاوضات السورية - الاسرائيلية أو تأسيس"الاتحاد من أجل المتوسط"، خصوصاً إذا كانت فرنسا ومعها أوروبا المتوسطية محور هذا الاتحاد. في كتابه المعروف"المتوسط والعالم المتوسطي"، كتب المؤرخ الفرنسي فرنان بروديل ان"الحضارات جنة البشر وجحيمهم". كان بروديل يحلل العلاقات المتوسطية انطلاقاً من اشتراك حوض هذا البحر في أسس الحضارة الحديثة. وأطلقت أفكاره موجة من الدعوات الى إحياء العلاقات القديمة. وتأسست جمعيات متوسطية. لكن الجميع نسي أن المركز انتقل من مرافئ الاسكندرية وبيروت وحيفا ومرسيليا واسبانيا والبرتغال الى مرافئ المحيط الذي ابتلع كل شيء، بعدما ورثت الولاياتالمتحدة الاستعمار القديم وأعادت انتاج تجربته الافريقية والمتوسطية جحيماً بتكنولوجيا حديثة. دعوة ساركوزي الى"اتحاد المتوسط"قد تلقى مصير"الشراكة من أجل المتوسط"التي أطلقت في برشلونة واندثرت من دون أي أثر.