سيمون دو بوفوار في الثامنة عشرة من عمرها؟ حتى فرانسواز ساغان لم تضطلع بعمل أفضل. دفاتر الشباب الستة التي كتبتها يومياً تقريباً بين عامي 1926 و1930 والصادرة حديثاً عن دار غاليمار باريس 2008، تكشف النقاب عن نضج مبكر لپ"أستاذة"في مجال التحليل الشخصي. لقد ملأت سبعة دفاتر، لكن الدفتر الأول اختفى ولم يبقَ منها كلها سوى 800 صفحة. دخلت سيمون جامعة السوربون ثم تابعت تعليمها في المدرسة العليا. في البدء، ترعرعت في أسرة كريمة واعتادت زيارة لورد وأحبت ابن عمها جاك. وفي وسط ذلك، كسبت صداقة المفكر موريس ميرلو - بونتي، ثم عرفت الصداقة والحب مع جان ماهو. وفي النهاية، غلب الموت صديقة طفولتها زازا وتزوج ابن عمها جاك بامرأة أخرى فاكتسبت عندئذ لقب"القندس"أو"كانتور"بالفرنسية. التقت سارتر،"فارس الحياة الممكنة"، واختارت أن توحد حياتها معه، في الحماسة والعذاب اللذين كانا في انتظارها. اختلفت النبرة وتغيّر الشكل تدريجاً: فالمراهقة المهمومة في البداية والمحتجزة في عالم الاستبطان المتكرر، تفسح في المجال أمام امرأة شابة أكثر رزانة وأقل حزناً تُكثر من وصف لقاءاتها وأيامها. إذاً عرفت ثلاثة أعوام من الاكتشافات والأزمات التي ساعدت على صقل هويتها كاملة: فهي تقرأ وتشعر وترتعش وتكتب وتحكم على نفسها وتعيد قراءة أفكارها وتتحكم بتقلبات مزاجها وفكرها وترسم مراراً المخططات والمناهج لحياتها. وها هي الأمور هذه ترشدها تلك الإرادة بالتفكير تلقائياً في ما تعيشه أو تظن أنها تعيشه - ويسيّرها ذلك القلق الملحّ بالبحث عن الذات وكسب الحرية الكاملة لتحقيق الذات. أما الكتّاب الذين تذكر أسماءهم أو تقتبس أقوالهم في الدفاتر، فهم كثر وعباقرة: أندريه جيد، بول كلوديل، راموز، لافورج، بول فاليري، طاغور، أوسكار وايلد، فرنسوا مورياك، رامبو، آلان، جان كوكتو... كانت سيمون غاية في الصرامة والصدق في بحثها عن ذاتها وفي إرادتها تحقيق ذاتها بحيث أرادت معرفة العذاب تمكنت من تحقيق ذلك على أكمل وجه ورفضت أو أخذت حيطتها من السعادة شفاها سارتر من ذلك موقتاً. أي نوع من الكّتاب هي؟ كاتبة"نفسية"أولاً. فعلم النفس ميلها ورغبتها."إن ميلي الأعمق هو نحو التحليل الدقيق، أتعلّق بنفسي أكثر من تعلّقي بالحياة التي أعيشها .... سيبقى التحليل النفسي شغفي على الدوام". يحتاج هذا الشغف إلى المعاناة:"أحب الأشياء والأشخاص القادرين على إلحاق الأذى الأكبر بنفسي، اللباقة في الإدراك والأناقة في التفكير والتعقيدات الدقيقة، هذا ما يستهويني". تدرسها بلا كلل في ذاتها وفي الآخرين: عائلتها، أصدقاؤها، والطلبة في السوربون، ثم، ابتداء من العام 9291،"الرفاق الصغار"جميعاً الذين تحلقوا حول المدرسة العليا. إنها كاتبة أخلاقية تالياً. تصلّبها ورصانتها اللذان تعرفهما وتحللهما خير تحليل، لانا وتوسّعا بفعل ذكائها المحسوس والتكوين الأوّلي للعبارة، كلاسيكية، مولعة بالنقيض. لفت سارتر نظرها إلى ذلك في 52 تشرين الثاني نوفمبر عام 9291 عندما غلب الموت صديقها زازا:"سيأتي الوقت الذي يأخذ فيه الغير كل ما أملكه. وعندئذ، كما أخبرني البارحة، أعتقد بأنني سأعرف المعاناة أكثر من أي امرأة أخرى في العالم". وتكشف هذه العبارة عن جانب آخر في سيمون الشابة هو جانب الانفتاح والتمزّق والانصهار. في أثناء تكوين المخطط الأول للشخصية عام 6291، اكتشفت في نفسها هذا التصلّب الرهيب:"تصلّب شديد وقاسٍ ولا أفهم سبب نشوئه، لكنني أخضع له كما أخضع لحاجة غامضة وساحقة .... فهو ينظّم حياتي. ويمنعني أولاً من الإقدام على كل ما ليس ضرورياً في الحياة". تراقب نفسها على الدوام. إن كرهت أحداً، تكره على الفور كرهها. حين تتيح للشفقة أن تتسلل إلى نفسها ولا تقسو على الغير بسبب ضعفهم تميل إلى الاعتقاد بأنهم جبناء. أما الحب في حياتها فبدأ في ما كانت تكنّه لابن عمها جاك، وهو حبها الأول الأفلاطوني. عرّفها جاك بالأدب المعاصر. فأمسى الخيط الأخير الذي يربطها بطفولتها والرجل الوحيد الذي ترفع الكلفة بينها وبينه. وطوال ثلاثة أعوام، نسجت في خيالها ذاك الحب غير المتبادل. ونظمت حياتها وفقاً لهذا المخطط على غرار هرّة نجاتها منوطة بنموّ مخالبها. لكنها اكتشفت أخيراً في 03 من أيلول سبتمبر عام 9291 من طريق صديقتها أنه سيتزوج بامرأة أخرى. في هذه الأثناء وفي تموز يوليو 8291، ظهر سارتر في حياتها واستولى على فكرها بسرعة فيما ساعدها على المراجعة الشفهية للتحضير لامتحان المدرسة العليا. وما لبث أن استولى على جسدها بعد سنة. أما تفاصيل هذه العلاقة، فكتبت عنها يوماً تلو يوم في دفاترها. خلال جلسات قليلة، استحوذ عليها سخاء سارتر وأحكم السيطرة على فكرها. فهو رجل يتيح لكل من يلتقيه تحقيق أفضل ما في ذاته. في 22 من تموز 8291، تكتب الآتي:"تأثير سارتر المذهل - أعرف هذا الشاب منذ ثلاثة عشر يوماً وقد جال في غياهبي، وصار يتكهّن بأفعالي فامتلكني. يحتاج ذهني إلى حضوره وينتابني الانفعال أمام تعاطفه. الشك والاضطراب والنشوة. أريد أن يرغمني على أن أصير شخصاً حقيقياً ويعتريني الخوف". وبما أنه سارتر وبما أنها سيمون، ينجلي كل شيء، حتى الأسوأ. فما إن كّف عن القول لها:"أفضّل التخلي عن هذه الحياة الممكنة على رؤيتك والحزن يغلّف قلبك"، حتى شعرت بحقيقة معنى الحرية السارتريّة.