ذات يوم، حلم جان بول سارتر بأنه يحضر حفلة نُظّمت على شرفه في جامعة أجنبية ورئيس الجامعة يقول له: "لقد خصّصنا قروضاً من أجل تشييد تمثال لك في الحديقة". فيجيبه سارتر: "اني على علم بذلك، ولكن، بعد بضع سنوات، إما سأكون ذا شهرة واسعة وإما سأكون منسيا كليا كي يشيّد لي تمثال في الحديقة"... عرف سارتر من دون شك شهرة كبيرة. الا انه أُهمل ربُما، ولكن من غير أن ينسَ كليّاً. فلا بدّ أن يقاس هذا الإهمال بالحب والكراهية اللذين كان يثيرهما من حوله عندما كان على قيد الحياة. توفّي في 15 نيسان أبريل 1980، وفي الذكرى العشرين لوفاة "فيلسوف الوجودية" تنطلق أنشطة عدة في الربيع المقبل في فرنسا. وشهد مطلع السنة الجارية إصدارات وافرة عن سارتر: "رسالة الى ماتيلد عن جان بول سارتر" لجانيت كولومبيل. وكتاب "وداعاً سارتر" "بلون" وضعه ميشال انطوان بورنيه ويجمع فيه ذكريات السنوات التي أمضاها برفقة مؤلّف "الغثيان". وكذلك كتاب و"ثلاث مغامرات مدهشة لجان بول سارتر" "غاليمار" لأوليفييه ويكيرز الذي يلجأ الى ألعاب السيرة والخيال ليفسّر شغفاً وحيداً عند سارتر هو محاولة معرفة ما الذي تعنيه الكتابة. وكتاب "قضية سارتر" "بوف" لفيليب بوتي، وأخيراً كتاب برنار - هنري ليفي "قرن سارتر. تحقيق فلسفي". وكتاب ليفي الذي صدر عن دار "غراسيه" يقع في 665 صفحة تؤلف مادة ضخمة وترسم ألف خط وأثر وتشدّنا الى القراءة، وخصوصاً أن واضع الكتاب كان يحمل راية "الفلاسفة الجدد" الذين أثاروا حفيظة المفكّرين الكبار في مطلع السبعينات، ولا سيما سارتر نفسه الذي اتهم هؤلاء "الذئاب" الشباب بأنهم عملاء لوكالة "سي.آي.أي." الأميركية. وليفي الذي يُعتبر من أتباع لويس ألتوسير لم يخفِ في هذا الكتاب إعجابه وتعاطفه الشديد تجاه سارتر ونتاجه ويقدّمه ك"أوّل تعبير معاصر للفكر المضاد للأنسية"، و"استباق متفوّق" للفكر الذي حمله الممثلون الشهيرون ل"فكر 68": كلود ليفي - شتروس، لويس التوسير وميشال فوكو الذين اشتركوا في هجوم عنيف ضدّ سارتر والذين أثاروا لدى سارتر ردّات لا تقل عنفاً... يغوص ليفي في جوانب عدة من حياة سارتر، عمله السياسي، التزاماته، نتاجه الأدبي، تكوينه الفلسفي، حبّه النساء، رحلاته الى البندقية، زياراته لكاسترو وتيتو، علاقته بالمال وغرف الفنادق، علاقته بسيمون دوبوفوار... وكل ذلك على خلفية الأشخاص الذي عايشهم أو تأثّر بهم، الذين أحبّهم أو خاصمهم : البير كامو، اندريه جيد، ريمون آرون، جيمس جويس، ستاندال، سيلين... برغسون، هيدغير، هوسيرل، هيغل ونيتشه، التوسير وفوكو... ويعتبر ان هناك عالمين سارتريين: سارتر المرحلة الأولى، مرحلة "الغثيان" و"الكائن والعدم"، رجل الفكر الحرّ المناهض للتوتاليتارية والمناهض لما هو أنسي، وسارتر التوتاليتاري الذي اكتشف حبّ العيش مع الجماعة عندما كان سجيناً خلال الحرب العالمية الثانية وأصبح رفيقاً للشيوعيين ومن ثم للماويين. ولكن ليفي يصل في النهاية الى سارتر ثالث، الذي أعاد اكتشاف الفلسفة اليهودية من خلال فكر إيمانويل ليفيناس في آخر حياته، وأثار الصخب والغضب داخل "العائلة السارترية" عندما نشر الأحاديث التي أدلى بها الى سكرتيره بيني ليفي القائد السابق للماويين في فرنسا الملقب ببيار فيكتور، والذي كان متخصصاً بالقراءات التلمودية قبل وفاته بفترة قصيرة. ركّزت وسائل الإعلام جميعها على كتاب برنار هنري ليفي واعتبرته الكتاب - الحدث في بداية العام 2000 وفي ذكرى وفاة جان بول سارتر. ولا شكّ أن توقيت ليفي إصدار كتابه كان مدروساً مطلع قرن جديد أما عنوان الكتاب فلا يقلّ ذكاءً: القرن العشرون أو قرن سارتر. لا أدري ما الذي دفعني الى محاورة الرجل. عندما طُلب منّي ذلك، كان بإمكاني ان أرفض او أن أتراجع ولكني قبلت. لعل الفضول الى اكتشاف فيلسوف وروائي وسينمائي ومثقّف ملتزم ، غير مقنع غالبا في تعاطيه مع مواضيع شتّى، ولكنه يبقى نجما من نجوم وسائل الاعلام في فرنسا. ومما لا شكّ فيه ان هذا الكتاب الأخير أعاد إليه نجومية ساطعة. هنا نصّ الحوار: صدر كتابك "قرن سارتر" قبل أسابيع واستفاضت وسائل الإعلام الفرنسية في الحديث عنه. صحيح ان كتبا أخرى صدرت في الوقت ذاته ولكن الكلام يركّز على كتابك. الضجة تخصّ من في نهاية الأمر؟ أنت أم سارتر؟.. أم... الاثنين معاً؟ - ربّما تخصّ الإثنين، ربّما إلتقاء الإثنين. لا أدري. قبل عشرين سنة، كان سارتر في الأعراف. كانت قراءته في تناقص مستمّر، وكان يسلّم أنه فيلسوف من الدرجة الثانية، كاتب ممّل، ومثقّف كان دائماً على خطأ. قد تكون سعادتي كبرى - الى أبعد من نجاح كتابي ومن الفيضان الذي تتكلمين عنه فهذا ليس أوّل كتاب لي يحظى برواج - أن أساهم في الدفع الى قراءة سارتر، في إقناع عدد من الأشخاص بأن رواياته رائعة، بأن فلسفته أعمق بكثير ممّا قيل لنا، وأنه لم يخطىء بالدرجة التي زُعم فيها، أي أن أساعد، بوجه آخر، على إخراجه من الأعراف. أما بالنسبة لما يحدث حالياً، فهل هو سارتر الذي يثير الضجة، هل أنا، هل بدأت نهاية الاعراف أم انه الاهتمام الذي يحصل عادة عند صدور كتبي؟ لا أدري، أتركه لتقويمك الخاص. ولا أقول ذلك بدافع التواضع ولكنني أجد دوما صعوبة كبرى في أن أكون محلّلا لحالتي. لا أستطيع أن أجيبك. يكثر الكلام عن "عودة" جان بول سارتر، بعد عشرين سنة على وفاته. ولكن هل يمكن لفكر حيّ وقوّي أن يختفي؟ الكتّاب الحقيقيون لا يموتون، فلماذا الحديث عن "عودة"؟ - هم لا يموتون، وإنما يمكن أن يتمّ حجبهم. معك كل الحقّ في أن الكاتب لا يموت ولكن موت كاتب يبدو أكثر تعقيدا. لا يمكننا أن نعرف أبدا إنطلاقا من أي لحظة يموت كاتب أو يحيا. يوجد كتّاب ظاهراً أحياء ولكنهم، بالفعل، ميّتون، ويوجد كتّاب يُعرف عنهم بأنهم ميّتون ولكنهم، بالفعل، أحياء أكثر من الأحياء. وهنالك حالة ثالثة تخصّ كتّاباً أحياء وإنما محجوبون، مكبوتون، لأن الدَين تجاههم كبير إجمالاً، يثقل حمله، ولأن المثقفين غالباً سيّيء المعاملة. لا يحبّون فكرة أن يكونوا مستدينين، وفي ذلك الوقت، كان الدين تجاه سارتر ضخماً في الفلسفة الغربية وفي الأدب الحديث. وعندما يكون الدين ثقيلاً الى هذا الحدّ، هناك ميل فعلا الى تغليفه أو التمويه عنه. ولكن سارتر نفسه قام بذلك والعصر لا يعيد له سوى ما فعله هو. ما الذي فعله سارتر تجاه اندريه جيد وتجاه هنري برغسون سوى تغليف دَينه الحقيقي وتحمّل مسؤولية ديون وهمية كي يُستّر على دينه الحقيقي؟ عندما يقول سارتر بأنه مدين كليّاً للروائيين الأميركيين ويليام فوكنر وجون دوسباسوس، فهذه وسيلة كي لا يعترف بكل ما هو مدين به الى سيلين. وعندما يقول سارتر بأنه مدين كليا الى مارتن هيدغر الذي لم يقرأه حقيقة، فهذه وسيلة كي يغلّف دينه تجاه ادموند هوسيرل وربما برغسون. عند الكلام عن العصر الحديث، والفلسفة الملقّبة بالشكّ أو الفكر البنيوي يقول بأنه مدين كليّا الى سوسور أو الى بنفينستيه أو الى شومسكي، أليست هذه وسيلة لإخفاء دينه الحقيقي تجاه سارتر؟ إذا، توجد طريقة اخرى في الموت وهي الحجب، المحو. هل انقلبت شهرته، إذا، ضدّه؟ - هذا أمر مختلف. إنها قاعدة، في الواقع، في الأدب الغربي، وربّما ليس الغربي فقط - ربّما عندكم ما يعادل ذلك في العالم العربي. عندي فكرة صغيرة عن الموضوع وإنما ليست كافية - حيث يؤدّي لمعان الإسم الى تظليم النتاج، الى كسف النصوص وهذا الوضع يشكّل غالباً مصيبة كبرى بالنسبة الى كاتب مشهور. إنها حالة مالرو، إنها حالة جيد وإنها حالة سارتر: الإفراط في الشهرة الذي يؤدّي الى عدم قراءة النصوص. ومن جهة أخرى، دفع ظلّ الإسم الكبير الرغبة عند الكتّاب في تبديل اسمهم، وفي العمل ثانية، ليس من الصفر، وإنما تحت راية أخرى. أعتقد بأن هذه الرغبة - وأراهن عليها - أغرت سارتر ولكنه لم يسلّم لها ظاهرا. لا يوجد كاتب مشهور بعيد عن ردّ الفعل هذا: أن تغريه فكرة تبديل إسمه وكتابة نتاج آخر عندما يختنق في إسمه. في مقابلة أجريت معه، قال ميشال ريبالكا أن سارتر هو مؤلّف جيله الأكثر دراسة في العالم، وأن 800 أستاذ وباحث من العالم أجمع يهتمّون بالدرجة الأولى بسارتر ونتاجه. يبدو، تالياً، أن زوال حظوته لم يحصل سوى في فرنسا؟ - ميشال ريبالكا معه حقّ، ولكنه سارتريّ كبير، الشاهد الأساسي على نتاج سارتر. وأخشى أن يكون ريبالكا، نظرا الى ذلك وإنطلاقاً من حبّه لعمل يعرفه أفضل من أي شخص آخر، بالغ في التقدير. صحيح أنه لا يزال يوجد باحثون يهتمّون بسارتر، ولكن تلك الحماسة الاخرى، تلك الحماسة الأكثر انتشاراً، الحماسة التي عرفها في حياته وليست متعلّقة بالباحثين وهي حماسة شابات او شباب عصر، هل بقي يتمتّع بها؟ لست متأكداً. ما هي قيمة ال 800 باحث أمام زوال حظوته - كما تقولين - في بلده، في فرنسا، وقد لحق به؟ هل يمكن الكلام إذا، عن ردّ إعتبار لجان بول سارتر حالياً؟ - لا أدري. من جهتي، وضعت كتاباً يحمل تعاطفاً كبيراً ولكن دون أن أكتب مديحاً، من دون أن أخفي إنحرافات وأجزاء معتّمة من تلك الحياة، ومن دون أن أخفي أي شيء من الطابع المضطّرب لتلك المغامرة. إنه كتاب حبّ وبالتالي، قد يكون، بطريقة ما، ردّ إعتبار. وفي جميع الحالات، لم أنزعج إن قُدّم الكتاب هكذا. هل يمكن أن نتحدّث قليلاً عن هذا الحبّ لسارتر؟ هل تحمله منذ مدّة طويلة؟ - الإهتمام بسارتر يعود الى مرحلة بعيدة، وأما الحبّ فلا. لقد جاء في أثناء العمل. وإن كنت صادقاً فعلاً - وأنا صادق بكل سرور - أقول بأن الحقيقة هي أني بدأت هذا الكتاب كُرها في سارتر وليس حبّاً فيه. وكانت فكرتي، عندما باشرت، أن أهدمه. حملت صورة الضائع الكبير طويلاً ولكن، على مرّ السنوات، أدركت أن الأمر أكثر تعقيداً. يشكّل هذا الكتاب عملاً طويل المدى. الى متى يعود؟ - بعيداً. الكتابة نفسها أخذت أربع سنوات، ولكن العمل أكثر بكثير. وبالفعل، فهمت أثناء هذا العمل أن الأمر أكثر تعقيداً مما اعتقدت في البداية وأن الشخص أكثر جاذبية، وأدركت أن المغامرة، في وجه الإجمال، كانت مذهلة. ومن جهة أخرى، يشكّل هذا الكتاب مغامرة داخلية بالنسبة لي. لقد كرهته وأحببته، لقد أحببته وكرهته، أحببته في كرهي وكرهته في حبي مثل امرأة ربّما، مثل هوى. لا يمكنني القول بأني أحبّ سارتر منذ البداية. ولكن، بالمقابل، يمكن القول بأنّي استشعر منذ زمن بعيد انه لقاء القرن الرئيسي لكاتب من جيلي. ولكنك لم تكن تتكلّم عنه؟ - لم أتكلّم لأسباب عدة، أهمّها أني أخذت وقتاً طويلاً كي أكون واضحاً مع نفسي ذلك أنّي كنت أختبر تجاه هذا النتاج مشاعر متشابكة، مزيجاً متقلّباً من الإعجاب ومن الإنكار. وقلت أنك لم تقرأه باكراً؟ - نعم، تأخرت في قراءتي سارتر. وأعتقد أنني يمكنني القول أن جيلي عموماً، ما عدا بعض الاستثناءات، لم يكن تابعا لسارتر تلقائياً. كنّا أتباع ألتوسير، لاكان، فوكو، وإنما ليس سارتر. على كل حال، نشعر في كتابك تعاطفاً تجاه الرجل وإعجاباً بنتاجه، وخصوصاً الأدبي. - والفلسفي. "الكائن والعدم" يشكّل مغامرة رائعة. إنه آخر مغامرة فلسفية كبرى.مُخفقة، خائبة، مقطوعة، وإنما مهمّة جداً. لماذا مُخفقة؟ - مُخفقة لأن سارتر إعترف بذلك. ما هو "الكائن والعدم" بالإجمال؟ كما أفسّر في كتابي، إنه محاولة للخروج من هيغل ومحاولة من أجل لعب دور كيركغارد ضد هيغل. ولكنه بعد "الكائن والعدم"، يقول سارتر: أنّي مخطىء وهيغل كان على حقّ. كيركغارد هو منطقة من الهيغيلية. وبالتالي، توجد حركة تراجع سارترية، وفي النهاية، يسلّم سلاحه الى هيغل. ُتميّز في كتابك بين مرحلتين عند سارتر: نصير الحرية المطلقة في المرحلة الأولى والتوتاليتاري في المرحلة الثانية لتصل الى سارتر ثالث ملهم بالفلسفة اليهودية في نهاية حياته. أي سارتر يهمّك فعلا؟ - الشاب والمسّن. الأول يحرّك شعوري لأنه ظريف للغاية، لأنه فردانيّ وجريء لأنه ستاندالي نسبة الى الكاتب ستاندال وموهوب في خلق السعادة واللذّة، لأنه يفضّل التحدّث مع امرأة جميلة بدل المناقشة مع ريمون آرون ولأنه بعيد عن فكرة الجماعة ولا رغبة عنده في ذلك. وكل هذه المواضيع قريبة جدّاً مني. أما سارتر المسّن، الضرير، المريض الذي يرتخي جسده وينحلّ تقريباً من جميع الأطراف، والذي يختار ان ينسف مجموع فكره، أن يضع في صندوق النفايات كل الكتب التي ألّفها، ويختار ان يبدأ من الصفر وذلك بواسطة الفكر اليهودي فيؤثّر فيّ أيضاً. بالطبع، لجؤوه الى الفلسفة اليهودية مهمّ بالنسبة لي، ولكن، حتى من دون ذلك، هذا الموقف السارتري الاخير يبدو لي عظيماً، وبطريقة ما، على مستوى الفكر البطولي. في نظري، هناك دائرة تكتمل بين الأوّل وبين الأخير. بأي طريقة تكتمل؟ - تكتمل خصوصاً من خلال إسم ايمانويل ليفيناس. فيجب ألا ننسى بأن ليفيناس كان الفيلسوف الفرنسي، أو باللغة الفرنسية، الذي مرّ عبره سارتر وهو في الخامسة والعشرين من عمره عندما اكتشف فينومنولوجية هيدغر وهوسرل. وبعد ذلك، ابتعد عنه ونسيه لمدّة 45 سنة، ليعود إليه في آخر حياته، في الحوارات الشهيرة التي أجراها مع بيني ليفي عام 1975. من خلال اسم ليفيناس، يرتبط سارتر الشاب وسارتر المسّن بعضهما ببعض. ما الذي يقرّبك من سارتر؟ - أشياء عدة. ولكن ما الذي يقرّبنا جميعاً منه؟ أنت قريبة من سارتر. ليس هناك امرأة في العالم غير مدينة لسارتر ولبوفوار. "الجنس الآخر" هوالكتاب الذي غيّر حياة كل النساء في العالم وبشكل خاص، النساء المتحرّرات في العالم العربي. إن كانت نساء اليوم حرائر، إن كنّ حرائر في إختيارهن حياتهن، في اختيارهنّ أن تكنّ أمّهات أو لا، أن تكّن متديّنات أو لا، أن تكّن زوجات أو لا، أن تكّن مخلصات أو لا... إن كانت نساء اليوم يتمتّعن بهذا الخيار، فهذا بفضل سارتر وبوفوار. هذه الحرية في الخيار هي التي تقرّبك من سارتر ومن بوفوار؟ - على سبيل المثال، نعم. بالنسبة لي، الثورة النسوية هي الثورة الكبرى في القرن العشرين. إني أحبّ النساء وأحبّ المساواة بين المرأة والرجل وأشعر بأني مدين لها فعلاً. هذه الثورة كوّنتني جزئياً، وهذه الثورة هي سارتر وبوفوار معاً، هي "الجنس الآخر". ما الذي يربطني بسارتر؟ هناك أشياء كثيرة: الميتافيزيقيا التي اتّبعها ليست بعيدة عنه، الموقف المضاد للمذهب الطبيعي، الميل الى الإنقطاع والإنشقاق، التشاؤم التاريخي، الحذر تجاه الجماعات، التركيز على الذات، الطريقة التي فكّر فيها سارتر في الذات والتي اعتبر نفسي مديناً له: ذات غير جوهرية، شبه فارغة، ذات هي مجموع أفعال فكره أو أفعاله من دون زيادة... طريقة حياة، أسلوب حياة، طريقة في تطبيق الفلسفة والأدب في الفرح وليس في الحزن، نوع من المقاومة المستمّرة لفلسفة الحداد وأدب الحزن، مطاردة "الإنفعالات الحزينة" كما كان يقول سبينوزا، رفض الإستياء. أكره الإستياء، وأكره الإيعاز الى رجال ونساء هذا الزمن، والى المثقفين والكتّاب خصوصاً، كي يكونوا كئيبين بقدر المستطاع. أكره الفكرة القائلة بأن نوعية أدب ما تتوازن مع كمية الحزن الذي يحتويه. وكل هذا الرفض أجده في العمل السارتري. والعمل في أنواع مختلفة، في فنون مختلفة - الفلسفة، الأدب، المسرح، السينما... الذي مارسه سارتر، تتبعه من جهتك. هل أثّر عليك أيضاً في ذلك؟ - سارتر ساعدني في أن أتجرّأ وأن أخوض غمار الأدب والفلسفة، المسرح والسينما، وأن أكون حيّاً حقيقيا. إنه سارتر الذي يعطي بشجاعة الى مثقّف أصغر سنّاً من هذا العصر. في كتابك تتكلّم عن سارتر في العالم نيويورك، كوبا، بكين، موسكو، الشرق الأوسط، اميركا اللاتينية، اسبانيا..، وتشير الى أن سارتر المسافر، الملتزم الذي يُستقبل بحفاوة في كل مكان ويُمجّد يعجبك كثيراً؟ - المُمجّد، كلا. ولكن الملتزم، طبعا. إن أمضيت أربع سنوات من حياتي في البوسنة، إن فكّرت بأنه يمكن صوتي أن يكون له معنى أو أن يكون له وزن، أيّا كان، - كذلك بالنسبة لكوسوفو وبالنسبة لسلمان رشدي - فإني مدين لسارتر بذلك. إنه سارتر الذي يقول لي أن مثقّفاً يصرخ، أو أن مثقفاً يلتزم لا يشكّل الكثير وإنما يبقى لعمله جدوى. هذه الناحية تهمّني وليس مجد سارتر. أن يكون أُستُقبل كرئيس دولة في وقت من الأوقات هو بالعكس، الناحية السيئة من البرنامج. التزمت قضية البوسنة خلال الحرب ولكن هل سيستمّر هذا الإلتزام؟ المشكلة البوسنية لم تنتهِ فعلاً، فعدد من الوعود لم يُوفَ بعد وكثير من المشردين لم يستعيدوا منازلهم. هل يتوقّف التزامك عندما يتوقّف أثر وسائل الإعلام؟ - لا، لا. ذهبت الى كوسوفو، على سبيل المثال، من دون الإعلام ومن دون التلفزيون ولم أكتب إلا القليل خلال الحرب في كوسوفو. ومنهجي دائماً هو أن أكون موجوداً عند الحاجة. ذهبت الى ساراييفو 12 أو 13 مرّة من أجل العمل، من أجل وضع فيلم عن البوسنة المدمّرة. عندما قال لي البوسنيون: نأخذك الى الخطوط الأمامية، نسمح لك بأن تصوّر هجوماتنا وأن تتعرّف الى وثائقنا وسجّلاتنا، قلت لنفسي بأنه يجب أن أفعل. عندما طلب منّي بعض الأصدقاء البوسنيون والرئيس عزّت بيغوفيتش ومثقّفون مسلمون وغير مسلمين ان أحضر الى ساراييفو السنة الماضية كي أشارك في النقاش الذي لحق تحرير البلد، ذهبت. إن يُطلب منّي غداً أن أعود، فسأعود طبعاً. يرتبط وجودي بالشعور الناتج عن المنفعة - الضعيفة - التي يمكن ان يؤدّيها هذا الوجود. أنوي العودة الى كوسوفو قريباً إذ أعتقد بأنه يجب الكلام مجدداً عن أمور عدة. يجب الكلام أو يجب الفعل؟ - الكلام، الفعل. في الوقت الحاضر، الكلام. إن كان هناك أشياء يجب أن أفعلها، فسأحاول أن أقوم بها. خلال الحرب في البوسنة، وضعت فيلما كما قلت لك. وهذا الفيلم عُرض في مهرجان كان، وفي مختلف أنحاء العالم، في البيت الأبيض، أمام الرئيس شيراك، في البرلمان الايطالي... إن عرفت كيف استخدم بندقية بالطريقة ذاتها التي استعمل فيها كاميرا او قلماً لكنت ربّما أخذت بندقية. من بين الأسئلة الأولى التي طرحتها على الرئيس بيغوفيتش كانت التالية: هل ترغب في أن نطلق نداءً في أوروبا من أجل تأسيس ألوية دولية كما في زمن حرب إسبانيا؟ فكان جوابه بأن الجنود البوسنيين الشبان شجعان ومدرّبون على الحرب وكفؤون. ولكنه أضاف بأن البوسنيين بحاجة الى خدمات لا يمكن ان يقدّمها الجنود الشبان. عندما أكتب أدباً، لا أفكّر إلا بنفسي ولكن، عندما ألتزم لا أفكّر بنفسي أو بأقل قدر ممكن. أفكّر بفائدة العمل الذي أؤديه وكيف يمكن أن أؤدّيه وما هي أفضل طريقة. في البوسنة، في كل لحظة، كنت أطرح هذا السؤال بإصرار يوماً بعد يوم - وكتبت ذلك في كتاب "الزنبق والرماد" -. أفكّر بجان جينيه الذي أمضى سنتين وأكثر مع الفدائيين الفلسطينيين في الأردن، في مطلع السبعينات، وقد عاش معهم وكتب، لاحقاً، نصّاً جميلاً جداً عن الثورة الفلسطينية.. - لقد إلتزمت بطريقة مختلفة. لم أعش مع البوسنيين ولكني كنت في ذهاب وإيّاب مستمّرين بين باريس وساراييفو، من حزيران يونيو 1992 حتى أيلول سبتمبر 1995. الحرب اللبنانية، القضية الفلسطينية، المسألة الكردية، ألم تثر هذه القضايا إهتمامك؟ - كتبت عن المسألة الكردية. ووضعت رواية تدعى "الشيطان في الرأس" تجري أحداثها، جزئياً، خلال الحرب اللبنانية. أما في ما يتعلّق بالقضية الفلسطينية فلم يتغيّر موقفي منذ أوّل مقالة كتبتها عام 1969 وقلت فيها أنني أتمنّى أن تولد بسرعة، الى جانب اسرائيل، دولة فلسطينية مستقّلة على أسس ديموقراطية. منذ 1969 أفكّر بأنه من العدل ومن مصلحة اسرائيل كذلك أن توجد دولة في الضفّة الغربية وفي غزّة. كنت تفكّر بالضفة الغربية وغزة منذ ذلك الوقت؟ - بالطبع. كتبت ذلك وردّدته غالباً. الضفة الغربية وغزّة، ومن ثم أن يجلس الديبلوماسيون وخبراء الاستراتيجيا حول طاولة من أجل البحث في الامر. أوّد العودة الى جان بول ساتر قليلاً. تربط سارتر، من جميع الزوايا، بالآخرين: مثل معلّميه، معاصريه أصدقائه، أخصامه... هل هذه وسيلة كي لا توجد وجهاً لوجه معه؟ - كلا فعلت ذلك لأني أعتقد بأن هذه هي الطريقة التي ندخل فيها في عالم رجل او فكره. التفكير برجل لا يمكنه ان يكون جزيرة صغرى. إنه دوما نظام من العلاقات، بنية. بمعنى ما، إنه كتاب بنيويّ. وهل تعتقد فعلاً بأن القرن العشرين كان قرن سارتر؟ - حتماً. أعتقد أنه الإسم والنتاج بل الوجه الذي تلخّصت فيه كل تناقضات القرن: اضطراباته، ظلاله، عتمته، ومجده. وهذا "المفعول" سارتر، هل تعتقد أنه سيدوم في فرنسا بعد أن تنتهي الضجّة القائمة في ذكرى وفاته العشرين؟ - لا أدري. لا جواب؟ - لا جواب.