في أواسط شهر حزيران يونيو الماضي أجرت محطة تلفزيون ال "بي بي سي" البريطانية مقابلة مع وزير النفط العراقي حسين الشهرستاني في برنامج Hard Talk تحدث فيه عن نفط العراق وأهميته وعن إدارة الدولة له وعن الاتفاقات التي عقدتها حكومة كردستان العراق، وأعلن عدم اعترافه بها. وفي آخر اللقاء أكد الوزير أن أهمية نفط العراق تأتي من حجم الاحتياطي المؤكد وأن آخر نقطة نفط ستكون في العراق. وفي أواخر شهر حزيران الماضي أعلن السيد الوزير في مؤتمر صحافي أن بلاده ستطرح ستة حقول للتنافس بين 35 شركة نفطية عالمية، من بينها حقلا الرميلة الشمالي والجنوبي وحقل غرب القرنة وحقول البزركان وأبو غرب والفكة في ميسان، إضافة إلى حقلي كركوك وباي حسن، إلى جانب حقلي الغاز، وهما حقل عكاس وحقل المنصورية. إن قانون النفط والغاز العراقي الذي جاءت صياغته بأيد قانونية وفنية وإدارية واقتصادية أميركية وبريطانية تحتل بلاد الرافدين، هذا القانون الفاسد بصياغته الأولية يقدم ثروات الشعب العراقي للمحتلين، ويجعلها نهباً للمحتل الذي هو الآن المتصرف الأول بمقدرات العراق وعائدات نفطه الضخمة، وقد كان كذلك منذ أول يوم للاحتلال حتى كتابة هذه السطور، ويبدو أن الأمر سيطول، فثروة نفط العراق أسالت لعاب الأميركيين فجاؤوا يهرولون ك"حمر فرّت من قسورة"وعيونهم على بحيرة النفط العراقي فإن ادعوا غير ذلك فقد افتروا ولسان الواقع يلقمهم حجراً. إذاً، ها هي الحكومة العراقية تفتح حقول نفطها ل35 شركة نفط عالمية لتعلن بهذا أن نفط العراق أصبح شيوعاً للشركات العالمية بعد أربعة عقود من تملك الشعب العراقي له بعد انتزاعه بالتأميم من شركات النفط الأجنبية، فهذه الحكومة التي خرجت من رحم الاحتلال دعت الشركات الأميركية أولاً والبريطانية ثانياً وشركات أخرى بحجة إعادة تطوير وتأهيل حقول النفط الكبرى في العراق، من اجل زيادة الإنتاج، هذا الإنتاج الذي كان قبل الحصار الاقتصادي على العراق بسبب غزوه الكويت بحدود 3.5 مليون برميل يومياً وكان يخطط له أن يبلغ 6 ملايين برميل يومياً بحلول عام 1996، باستثمارات تبلغ حوالي 20 بليون دولار، تدنى بعد الاحتلال إلى 1.5 مليون برميل يومياً واليوم يتراوح بين 2 و2.5 مليون برميل يومياً في ظل الاحتلال. إن التدني الذي حدث في انتاج النفط سببه عبث المحتلين وبعض من جاؤوا بهم إلى السلطة وحتى هذا الإنتاج المنخفض تذهب إيراداته إلى جيوب المحتلين وشرذمة من العراقيين الفارين حتى أصبح العراق فريسة للفساد وصنف رقم 135 على قائمة الفساد على المستوى الدولي، وحرم هؤلاء المحتلون والمفسدون أصحاب الثروة الحقيقيين من عائداته التي تسرق جهاراً نهاراً أمام أعينهم، والسارقون ينعمون بما سرقوا بينما أصحاب الحق يتسولون حقهم، وممن؟ من الذين سطوا بقوة السلاح على نفط العراق ومن الذين جاؤوا بهم لإدارة دفة الحكم تحت مظلة الاحتلال، ومسألة عبث الأميركيين والبريطانيين ومعاونيهم لم تعد خافية على احد فهي واضحة يعرفها القاصي والداني، ولكن العالم لأمر في نفس يعقوب أو خوفاً من سطوة أميركا ويدها الطويلة، آثر العمل بالمثل الشهير لا أدري لا أسمع لا أتكلم! من الأمور التي تملأ النفس بالحزن والأسى وتبرز معاني إهدار ثروات العراق، بل والعبث بوحدته على طريقة فرق تسد انه تحت حماية الاحتلال ذهبت حكومة كردستان العراق إلى توقيع عقود مع العديد من الشركات الأجنبية للمشاركة في الإنتاج، ومنحت تلك الشركات شروطاً سخية جداً غير مسبوقة في تاريخ صناعة النفط. وعلى رغم أن حكومة بغداد اعترضت بل وأوقفت إحدى الشحنات من النفط، واعتبرت ذلك تجاوزاً لصلاحيات الحكومة في بغداد، فإن حكومة كردستان طبقت قانون النفط والغاز حتى قبل صدوره، والذي من هفواته العديدة منحه صلاحيات الإشراف على حقول النفط للمحافظات، والمعنى المبسط لهذا التوجه هو تقسيم العراق وبذر حال عدم الاستقرار في بلاد الرافدين، وبث الفرقة بين أبناء البلد الواحد، وإذكاء نار حروب أهلية لا تبقي ولا تذر، لذا كان 70 في المئة من أهل العراق على حق عندما رفضوا في استفتاء اجري الصيف الماضي هذا القانون الذي يفتح الباب على مصراعيه لهيمنة الشركات الأجنبية على ثروات بلادهم. وعلى كل فإن منح امتياز استكشاف النفط والغاز والتنقيب عنهما أو المشاركة في الانتاج، في ظل الاحتلال وفي ظل غياب قانون للنفط والغاز يصدر عن برلمان منتخب انتخاباً حراً نزيهاً بعيداً عن سلطة المحتل، يعتبر طبقاً للقانون الدولي والقانون العراقي وقرارات الأممالمتحدة باطلاً بطلاناً بيناً لا مراء فيه ولا جدال! كان للشعب العراقي أن ينعم بخيرات نفطه ويعيش بحبوحة من العيش بعد أن بلغ سعر البرميل منه 145 دولاراً، ولكن ذلك الدخل ينهب بينما الشعب العراقي يعيش ضنك العيش ومرارات العوز. هذه الحقيقة تعود بالذاكرة إلى العهد السابق للاحتلال، فثروة النفط كانت ملكاً للشعب على رغم ما نعت به حكم صدام من النعوت، فقد انتزع نظام صدام السيطرة على النفط من أيدي الشركات الأجنبية وأصبح ملكاً للشعب، واليوم يعود نفط العراق ليوضع على مقصلة الخصخصة وفتح الباب للشركات الأجنبية لتعود للسيطرة عليه وتضخ استثماراتها في الحقول النفطية والمشاركة في الانتاج تحت حماية الاحتلال ورعايته، هذا المدخول هو محصلة غزو العراق الذي كان من اجل عيون النفط. إن دخول تلك الشركات للمشاركة في الانتاج في ظل الاحتلال وغياب قانون للنفط والغاز، يعني أنها ستحصل لا محالة على شروط تفضيلية، كما يعني أن شركات المحتل الأميركي والبريطاني، ستفوز بنصيب الأسد وهذا ليس مستغرباً، فهذه إحدى مكافآت الغزو الذي وقوده النفط محرك الحروب والصراعات! قلنا إن النفط هو المحرك الرئيس للحروب والصراعات، وهذا ما تؤكده أحداث القرن الماضي وهذه الألفية، فأميركا شنت الحرب على أفغانستان بسبب اطلالته على نفط بحر قزوين، وشنت الحرب على العراق من أجل النفط. فالعراق يملك ثالث احتياطي مؤكد عالمياً بعد السعودية وإيران 115 بليون برميل، بينما نفط أميركا بدأ ينضب، لكن الطمع في النفط أصبح نقمة على بوش وحزبه بدلاً من أن يكون نعمة، فقد دفعت بلاده ثمن حروبه العشوائية واهتز اقتصاد بلاد العم سام وتعرضت لأزمة الرهن العقاري المخيفة وانهار سعر الدولار وارتفعت أسعار النفط من حوالي 25 دولاراً لتبلغ 145 دولاراً بفعل طيش سيد البيت الأبيض وقصر نظره. إن سعر النفط على رغم بلوغه مستوى قياسياً هو 145 دولاراً قبل أن يعود الى التدني بسبب تدهور العملة الأميركية التي يسعر بها النفط بشكل غير مسبوق يجعل الدول المنتجة ومنها العراق لا تحصل إلا على إيرادات تزيد قليلاً عما كانت تحصل عليه عندما كان السعر بين 39 و 40 دولاراً للبرميل في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ابان الثورة الإيرانية والحرب العراقية الايرانية، عندما كان الدولار بعنفوان شبابه قبل أن تعتريه الشيخوخة بسبب حروب السيد بوش على أفغانستانوالعراق واحتلالهما بقوة السلاح! ومع هذا الارتفاع التاريخي في سعر النفط، فإن أهل العراق الحقيقيين لا يحصلون إلا على الفتات، بينما تذهب ثروات بلادهم إلى جيوب المحتلين والعملاء والوكلاء والسماسرة، أما شعب العراق فله الله، هذا الحيف في حق الشعب العراقي يحدث على رغم قرار مجلس الأمن رقم 1483 الصادر في 22 أيار مايو 2003 بعد الاحتلال والذي نصت فقرته ال21 على أن"جميع صادرات العراق من مبيعات النفط والمنتجات النفطية والغاز الطبيعي عقب تاريخ اتخاذ هذا القرار تكون متفقة مع أفضل ممارسات السوق الدولية السائدة، وان يتولى مراجعة حساباتها محاسبون عموميون مستقلون مسؤولون أمام المجلس الدولي للمشورة والمراقبة من أجل ضمان الشفافية وإيداع جميع العائدات في صندوق التنمية للعراق". فهذا القرار الواضح الصريح الذي ينص على ضرورة حماية ثروات العراق من الاستيلاء عليها والعبث بها ومن الفساد أصبح مكانه مزبلة التاريخ، لأن ما حدث أن مقدرات الشعب العراقي وممتلكاته أصبحت في يد المحتل الدخيل، فوزعها بين قومه وربعه، بين شركاته ومؤسساته، حتى أن العراقيين لا يعرفون الأرقام الفلكية لعائدات نفطهم، فالمحتلون لا يعلنون عن حقائق الأمور، وأصبح قطاع النفط من دون رقيب ولا حسيب! وهكذا أصبح نفط العراق في الشمال والجنوب نهباً للمحتل والفاسدين، فأصبحت سرقة النفط وتهريبه جهاراً نهاراً على عينك يا تاجر والنفط الذي ينجو من نهب وسرقة المحتلين وشركاتهم النفطية والمتنفذين، يقع في يد المهربين، وبذلك تعرض اقتصاد البلد المحتل لحملة منظمة أتت على الأخضر واليابس، وأهل بلاد الرافدين شاء قدرهم أن يكون نصيبهم منذ الساعات الأولى لسقوط عاصمة الرشيد في قبضة السيد بوش عرّاب الحروب هو شم رائحة النفط من بعيد! إذا في ظل الاحتلال البغيض، فإن العراقيين جردوا من ثرواتهم الوطنية وذهبت الأموال النفطية الطائلة إلى المحتل وشركاته النفطية طبقاً لسياسة رسمت بعناية قبل بدء الاحتلال ونفذت خطوة خطوة على مدى أكثر من خمس سنوات. أميركا وبريطانيا تعلمان أن هذا الذي يحدث هو ضد القانون العراقي وقواعد القانون الدولي والأعراف الدولية، لكنّ الدولتين اللتين داستا على القانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة بالحذاء القديم واحتلتا العراق على رغم أنف الأممالمتحدة ومجلس أمنها، لا تتورعان عن كسر أنف كل القوانين الإنسانية من أجل النفط، بل وإسالة الدماء كالأنهار من أجله وكأن فخامة الرئيس بوش يردد قول الرئيس أيزنهاور لقد سبح الحلفاء نحو النصر على بحيرة من النفط! لقد جاء المحتل لنهب النفط محرك الحضارات وصانع الحروب والصراعات من أهله الذين يرون السارق يسرق ثرواتهم وخيراتهم، ويعتدي على أموالهم ويخطف أرزاقهم من أفواههم ولا يملكون حيال ذلك إلا اجترار الحسرات! * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية