باتت عمان تعني لي الكثير منذ وقّعت عقد عمل سيحملني الى العمل في بلد نفطي. صرت أراها كل صباح تبتسم لي وتدعوني الى البقاء، وكأن كل شيء تغير فجأة... لم تعد عمان مكاناً بل أصبحت أماً رؤوماً تعتب علي، وتلومني لرحيلي المرتقب. تحدثت إلى صديق سبقني إلى الغربة. انتقل وصفي إلى موسكو للعمل هناك قبل عامين تقريباً. أخبرته بفعلتي، ولا أعلم لماذا بعث إلي بالنص التالي الذي ربما أراد فيه ثنيي عما أنوي فعله بطريقة غير مباشرة، كتب وصفي: "حيث يتوقف الزمن, تقف كل صباح في ردهات محطة"أكتيابريسكيا"، تصدح بموسيقاها التي لا تحرك أحداً وربما لا تعني شيئاً لأحد سواي أنا ورفيقي. بكمانها البني الكالح، وسترتها التي لا تفارقها لا صيفاً ولا شتاء، وخصلات شعرها الأشقر متهدلة على وجهها، تسند خدها إلى سليل الأخشاب، وتخفي عينين ملّتا نظرات فضولية، لتسمح لمدى بصرها أن يسرح في اللامكان. كنا نقف يومياً مشدوهين بما نسمعه من ألحان تنساب إلى أذنينا بلا استئذان، وتحملنا إلى ما قبل عقود، وقت ثار الفقراء في وجه فقرهم، وحملوا الفؤوس والمعاول وهدموا حصون الاستعباد، لترتفع على جثثهم قلاع ذل وهوان لا تزال أطلالها ماثلة... فالثورة تبدأ بمناضل وتنتهي بانتهازي أو هكذا يقولون. بقوسها تحز على أوتار عمر مضى، لم يكن مشرقاً أبداً، ويمزق السكون أنينٌ يترجم ما يعتمل في الصدور في زمن كبحت فيه حتى الأنات. رحل رفيقي وبقيت. وقفت وحيداً أعدّ الدقائق لألملم شتات الفكر في محراب صاحبة الكمان كل صباح. أغيب لحظات مع كل عناق لقوسها على الوتر. وتتقطع أنفاسي مع كل شهقة، ويمر شريط الذكريات سريعاً لأصحو على همهمات لا أفهمها ولكنها تدفعني للمضي في طريقي وقد أعقت مرور العابرين. في الأمس غابت صاحبة الكمان. بحثت عنها عند تمثال لينين, عند ضريحه, في الساحة الحمراء, عند رأس تولستوي. وقفت على أطلال ذلك العهد. لم أعثر عليها. كانت قيمة الجمال الوحيدة في هذه البلاد والآن لم يبق سوى القبح. ما عاد هنا تشرين الأول أكتوبر. التوى المنجل وانكسرت المطرقة وتغيرت الحال. الآن استيقظت. الآن عرفت أن جمال المكان ينبع من داخل الإنسان، وأن الحياة مرآة، وصاحبة الكمان انعكاس لبقايا جمال عالقة في عينيّ. بقايا وطن, وبقايا إنسان غارق في العشق. عشق رائحة المكسرات الرخيصة في"شارع بسمان", ورائحة شواء اللحوم"المجهولة"في"رغدان"، وأزقة موحلة بمياه آسنة غصت بها شوارع"جبل النظيف"، وكراسي"السامبا"في الجنائن، ودكاكين تبيع كل ما ليس له قيمة للفقراء, وتخزّن ما له قيمة للأغنياء. عشق أجيال تولد وتعيش وتموت والشارع حاضنها، وربيع"الهاشمي"، ومتنزهات"اللويبدة"، وأدراج"الجوفة". صور قطط تتعارك عند القمامة لتحظى ببعض الفتات ونظرات حياء"مصطنع"في عيون الفتيات، ورجولة مفتعلة في عيون الفتيان. أصداء نشاز في أصوات الباعة وسائقي السيارات, وضحكات مجلجلة على رغم المصائب المتراكمة. هو باختصار عشق وطن بحسناته وسيئاته... وكل حجارته قبل أن تؤجر وتباع. هنا في موسكو يردد كثيرون جملة الأديب والسياسي الروسي مكسيم غوركي"الوطن ترجمة غبية للحنين". لكنني أقول"بلادي أنت فاتنة... ولكنّك دائماً قاسية". وصفي... الرابعة والدقيقة السادسة والثلاثين من فجر الثامن والعشرين من أيار مايو 2008". صدق وصفي. دمعت عيناي حين قرأت سطوره وتذكرت كيف استعجل الرحيل منذ عامين وقد تملكه الغضب والسخط من كل شيء هنا. لكن جملته هذه ستكون محفزي الاول لتنفيذ خطتي بالانتقال أنا أيضاً. عمان أنت فعلاً قاسية, وأملي ألا تكون الغربة أقسى منك!