زرت مدناً كثيرة في العالم؛ لكن تبقى جدة؛ مدينة ذات نكهة خاصة، مدينة ذات رونق جذاب، لماضيها عطر برائحة التراث الحجازي العريق، وفي حاضرها ترتدي وجه مدينة عصرية، جنباتها تشرق بشمس المدن الناهضة، عروس ترقد إلى جوار البحر الأحمر لتحكي قصة البداية، ترقد هادئة مطمئنة، آمنة مسترخية بدلال متبختر، وحينما يأتي ليلها ليلبسها رداءه، فيحق أن نقول عنها، أنها المدينة التي لاتتثاءب، ولا تعرف النوم، فهي مدينة سهرانة حتى ظهور نجمة الصباح اللامعة، من أغرب المدن وأعجبها، فقد تمر في الساعة الأخيرة من الليل، قبيل ساعة الفجر بأحد محال «بيع الإيسكريم « فتجد طوابير المشترين، صغاراً وكباراً في تزاحم عجيب مثير، أو حينما تمر بأحد شوارعها الرئيسة في ساعات متأخرة من الليل، فتجدها مكتظة بالسيارات والزحام على أشده بينها، هذا لا يحدث إلا في جدة، فجدة غير، لكن زحامها؛ ليس كالزحامات في المدن الأخرى الذي يدخلك في قلق الزحام، جدة لمن عرفها، هي بوابة سفرنا الأول، هي محطتنا الأولى، هي الطريق إلى مكة، هي التي كنّا نقول عنها ونغني «جدة أم الرخاء والشدة « قال عاشقها «بدر بن عبدالمحسن: « وكل ماجا الطاري في عرس أو خطوبة وقلنا: مين هي العروس؟ قالوا جدة اسقي باقي العمر من طلتك عذوبة وشدي أوتار الحنين.. مثل عود.. وأعزفي قلبي يعود» بدر.. لا يلام حينما رآها عروساً تشدو بحنين لذكريات خلت لكنها تستيقظ بمجرد أن يأتي مساء جدة، وحين يغنيها ابنها شاعر الحب يحيى توفيق «إيه (جدة) إن غربتني الليالي.. ففؤادي يهيم فوق رباك يا عروس الحجاز ليلك سحر.. وجمال الوجود في مغناك إيه (جدة) كم عذبتني شجوني.. وشكا القلب غربتي وحنيني وذكرت الحمراء مرتع حبي.. فبكت من ذكرى هواك عيوني كم شدا الطير في رباك وغنى.. لحن ذكراك في فؤادي الحزين». فهي كل شيء عند شاعر «سمراء»، هي ذكريات الصبا والطفولة، وهي الحنين المسكون في فؤاده، وهي لحن الذكريات حينما يشتد فيشدو بلحن لا يملّه، كما هي عند يحيى توفيق مرتع الأمس وملعبه، فهي عند طلال حمزة عروس المدائن بلا نزاع «ايه أحب القاهرة، بيروت كازا.. بس جدة ياخي غير جدة ياخي ذكريات..يكفي جدة إنها شمس المدائن.. وانها أحلى البنات، جدة فيها سحر بابل، واختصار الناس.. باب مكة أو في قابل». هكذا هم الهائمون بحب جدة حين يعشقونها، جدة أتوقعها أن تكون عروسة المدن السياحية في خليجنا، فما أن جاءها «خالد الفيصل» الأمير الوطني، والمسؤول، حتى حولها إلى ورشة عمل كبرى، ثم بدأ في إعادة رسم ملامحها الجميلة، بريشة الفنان، حتى بدت حسناء فاتنة، هذا الحسن والبهاء، هذا الجمال لجدة، جدة العواد وعزيز ضياء وعبدالله الفيصل، وأبو مدين، جدة الندى وقابل، بحاراتها القديمة المظلوم، والشام، واليمن، وحارة البحر، والرويس، جدة باب مكة وباب شريف، جدة الأسوار التاريخية، وباب المغاربة، جدة البحر، والكورنيش، وسوق الصواريخ، جدة الصيد والصيادية، جدة مسجد الشافعي الذي يطل بآثاره علينا من القرن السابع الهجري، ومسجد الباشا، ومسجد عكاش، ملتقى الرفاق حينما تتيه بهم السبل «ألقاك عند مسجد عكاش، جُدة، أو جَدة، هي المدينة الأخاذة بكل ما فيها بطقوسها وتاريخها وجغرافيتها، أكثر ما يؤلمني، حينما يتم تشويه هذا الجمال، وهذا التاريخ العريق، برمي المخلفات على بحرها الهادئ الجميل، من الظلم أن يهدينا البحر عليل نسماته، ويسعدنا برقصة أمواجه، ويشنف أسماعنا بموسيقى مده وجزره، ثم نلقي على شاطئه أكواما من النفايات والمخلفات، جدة لا تستحق إلا الحب والجمال، وسنبقى نستطعم جمالها كل وقت، فهي كما قال صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل - أمير منطقة مكةالمكرمة - ذات مساء «إنها جدة.. بسملة عثمان، وتحميدة عبدالله.. إنها الحلم يتأسس.. والإبداع يتنفس.