عندما فتح المسلمون إسبانيا عام 711م كانت أرجاؤها تزخر بكثيرمن المباني الرومانية والقرطاجنيّة والأيبيرية ومن بينها معابد ومسارح إضافة إلى قناطر المياه والحصون والعقود والأسوار الرومانية. وقد أبقى المسلمون عليها طوال عهدهم وعملوا على تجديدها وإصلاحها والانتفاع بها. أما الكنائس القوطية التي كانت قائمة زمن الفتح، فقد أبقى المسلمون على معظمها لعبادة المسيحيين . عندما فتح المسلمون قرطبة كانت توجد في الموضع الذي بُني فيه المسجد الجامع كنيسة تُعرف باسم كنيسة سان فنسانت. وبحسب العهد الذي وقّعه المسلمون مع أهل قرطبة بقيت الكنيسة على حالها وتم تقسيمها بين المسلمين والمسيحيين وكان من حق المسلمين أن يكيفوا القسم الذي يخصهم من مبنى الكنيسة ويعدلوه بحسب ما تقتضيه إقامة شعائر الدين الإسلامي، وكان هذا في الواقع بداية ظهور طراز العمارة الأندلسية متمثلاً في المسجد الجامع في قرطبة، الذي كان مثلاً انبعثت منه كل صور التطور المعماري في الأفق الأندلسي وتغلغل تأثيره حتى في اسبانيا المسيحية. كانت المرحلة الأولى في بناء جامع قرطبة ترجع إلى عهد عبدالرحمن الداخل، إذ انه في عام 186ه 785 م فَكر جدّياً ليس فقط في إعادة بناء جامع قرطبة ولكن في توسيعه على حساب الكنيسة والتي كان الجامع يشاركها في المبنى. وسارع عبدالرحمن إلى مفاوضة كبار قساوسة الكنيسة وزعماء النصارى في أن يضم الجزء الخاص بالكنيسة إلى الجامع فقبلوا شرط أن يسمح لهم عبدالرحمن ببناء كنيسة لهم بدل تلك التي هُدمت خارج المدينة وأن يدفع لهم تعويضاً قدره مئة ألف دينار، فقبل. بدأ العمل في إعادة بناء الجامع وتوسيعه في همّة، ولكن عبدالرحمن توفي قبل أن يتم البناء. وكان عبدالرحمن يحرص على تقليد الجامع الأموي في دمشق، وعلى رغم من ذلك لم يكن جامعه يخلو من البساطة، مع تجديد وابتكار في أسلوب بناء العقود المتراكبة، وهي طريقة لم يستعملها من قبله أحد، وستكون هذه الطريقة هي المتبعة في كل الإضافات والزيادات التالية. ويروي بعض المؤرخين أن مواد بناء جامع قرطبة وتوسيعه جُلبت من المباني والآثار القديمة في طليطلة، وأنّ الأموال التي أنفقت في بنائه أُخذت من خُمس الغنائم الحاصلة للأمير عبدالرحمن من غزوة نربونة، وأن عبدالرحمن جلب إليه الأعمدة الفخمة والرخام المموّه من أدبونة ونيمة وإشبيلية والقسطنطينية. وهناك رواية تذكر أن بناء الجامع تكلف ثمانين ألف دينار وأن الذي أشرف على البناء الوزير عبدالله بن خالد وأنجز البناء في ست سنوات. ومساحة الجامع الحالية تشغل مُسطحاً كبيراً من الأرض يبلغ طوله مائة وثمانين متراً مربعاً وعرضه مائة وخمسة وثلاثين متراً مربعاً بمساحة إجمالية تبلغ 24300 متر مربع. ويدخل في ذلك صحنه المكشوف الواقع شمال الجامع ويُعرف باسم فناء البرتقال وهو أندلسي الطراز والمظهر. وكان الجامع فضلاً عن وظيفته الدينية الرئيسة كمسجد للإمارة ثم الخلافة يتخذ مركزاً للمهمات الكبرى، فقد كانت تؤخذ فيه بيعة الأمير أو الخليفة الجديد، وتعلن من فوق منبره عظائم الحوادث، وتقرأ الأوامر والأحكام الخلافية، ويعقد به مجلس قاضي القضاة ، ومجالس العلم. بُنيت جدران المسجد الجامع في قرطبة الذي شرع عبدالرحمن الداخل في بنائه عام 785م ، من كتل من الحجر الجيري المائل إلى الاصفرار وكان شكل الجامع رباعياً، واجهاته متحدة المظهر قليلة الارتفاع تقطعها بين مسافة وأخرى دعائم تشبه الابراج ترجع الى تقليد معماري استخدم في المشرق منذ عصور قديمة، ويتخلل الأبراج باب عليه زخارف جميلة ونوافذ مزدوجة عليها شبكات من الرخام يتوجها كلها افريز من الشرافات المثلثة المسننة محاكاة لما كان في القلاع القديمة، وكانت المساحة الكلية للجامع بما في ذلك الجدران تؤلف شكلاً رباعياً يكاد يكون مكتملاً. وينقسم الجامع الى قطاعين يتساويان في ما بينهما تقريباً، فالقطاع المتجه الى الشمال وهو الصحن مكشوف، والآخر المسقوف رأسه يتجه الى الجنوب، ويصل المُصلي من ناحية الصحن متخللاً أحد عشر عقداً يقابلها عدد مماثل من العقود المتجهة نحو القبلة. وكانت تقوم داخل الصحن من أيام عبدالرحمن الداخل أشجار باسقة، وفي القرن الثالث عشر الميلادي زُرعت أشجار النخيل في مقدم الصحن الشمالي. وعدد الأعمدة في الجامع 142 عموداً يتألف الواحد منها من أربعة أجزاء: قاعدة ? بدن ? تاج ? حدارة مخدة. وأرض الجامع تميل قليلاً نحو الجانب الشرقي، ولذلك لم تكن الأعمدة في مستوى واحد، فنجد بعض الأعمدة قواعدها مدفونة في الأرض، وأخرى تبرز قواعدها عن سطح الأرض. وقواعد الأعمدة أساساتها منفصلة كل على حدة وهي راسخة البنيان، وتختلف جدران الجامع في الارتفاع بحسب المكان فترتفع في الجنوب عند اقتراب الجامع من ضفة النهر وتنخفض في الشمال، ويرجع ذلك إلى امتداد مبناه فوق منحدر مستطيل الشكل. والجامع حالياً جدرانه شاهقة كالحصن المنيع بحجارته الكبيرة المنحوتة نحتاً جيداً وسقفه قرميدي وتحيط به من جهاته الأربع شوارع تحمل أسماء عربية الأصل كشارع القصر وشارع القنطرة وباب العفو أو الغفران، ولا يمكن أن يتصور من يطوف في مبناه متأملاً واجهات مداخله ذات الزخارف الهندسية والنباتية المنحوتة بدقة في الحجر أنّ الجامع تم إنجازه من دون تخطيط مسبق أو مثال معماري ثابت على مدى أكثر من قرنين. والأعمدة التي استخدمت في بناء الجامع قديمة في جملتها ومعاد استخدامها، فهي إما رومانية أو من عهد المسيحية المبكرة أو قوطية قواعدها كلاسيكية مختلفة الأشكال. وأبدان الأعمدة من انواع شتى من الرخام والغرانيت وملساء بعضها عليه قنوات حلزونية أو مستقيمة. ويلاحظ أن أبدان الأعمدة الوسطى من رخام مجزع وردي اللون جُلبت في الأصل من بناء واحد قديم. أما التيجان فهي متشابهة صنعت من رخام أبيض على الطراز الكورنثي، وبعض التيجان كلاسيكية تمتاز بجمال رائع، وقليل من التيجان مزخرفة بالورقة النباتية المعروفة باسم شوكة اليهود. وهناك تيجان منحوتة على شكل الناقوس مزخرفة بأوراق الزنبق تذكرنا بزهرة اللوتس المصرية المنفذة على الطراز البيزنطي، ولهذه التيجان أمثلة مشابهة في مباني شبه جزيرة المورة والقسطنطينية وروما والبندقية والتيجان القرطبية الأصل تحمل قرماً مستديرة كما تعلو كثيراً من الأعمدة تيجان مزخرفة بأوراق ملساء من فصيلة نبات الصّبار، وهي إما رومانية أو بربرية الأصل، وتوجد تيجان قرطبية الأصل زخارفها كثيرة التفاصيل شديدة التعقيد نجد أمثلة مشابهة لها في مساجد إشبيلية وماردة. لقد تمكن مهندسو الأندلس من ابتكار نوع ٍجديد من العقود المتراكبة والمتقاطعة والمفصصّة، وتربط الأعمدة هذه العقود التي تقوم في الهواء بين الدعائم، وتندمج أجزاؤها السفلى في الدعائم نفسها، وهذه العقود على شكل حدوة الفرس، وهي تسبح في الهواء ولا تحمل شيئاً من أعلاها وتحيط بحدّها العلوي زخرفة من شريط بارز من الآجُر مؤلّف من خطين أملسين بينهما سلسلة من قطع الآجُر على شكل أسنان المنشار، وهذه طريقة في الزخرفة أصلها شرقي معروف وفدت من العمارة الساسانيّة أو من بعض القصور الأموية في بادية الشام أو من العمارة البيزنطية. والعقود القائمة في الفضاء لا نظير لها في الفن القوطي، أما العقود العليا التي تكون نصف دائرة هندسية، فإنّ رسوخها يكمن في وظيفتها وهي دعم السّقف وحمله. وقد آثر مُصمّم عمارة الجامع استخدام العقد الذي على شكل حدوة الفرس مراعياً التقاليد الفنية القوطية التي يبدو أنها ازدهرت بفضل الإحساس بجمالها. وقد صار عقد حدوة الفرس منذ إنشاء المسجد الجامع في قرطبة هو النموذج الأصيل لضروب العمارة الأندلسية، كما انتشر في بلاد المغرب. تتوج الجزءَ المسقوفَ من الجامع شُرّافاتٌ من الحجر وهي أصيلة وذلك ابتداء من وجهته الغربيّة، أما البقيّة الباقية من هذه الشرافات فإنها ترجع إلى عصور متأخرة وهي تكوّن أشكالاً مثلثة مدرجة كأسنان المنشار في زوايا حادة، وفي كلا جانبيها ثلاثة أسنان يعلوها سِنّ مقعر في طرفها ، وتزدان اثنتان منها أو ثلاث ? ولعّلها الوحيدة التي بقيت من الشرافات القديمة الأصلية - بوريدات محفورة وهو تقليد فني شائع في الفن القوطي الغربي الأندلسي. لم يكن تتويج المباني بالشرافات معروفاً من قبل في العمارة الغربية، في حين أن الشرافات المسننة ظهرت في فينيقيا وفارس، كما استخدمت في العمارة العربيّة والساسانية. ولا شك في أن استخدام هذه الشرافات الزخرفية المعمارية لم يبلغ قط في بلاد المشرق ما بلغه في العمارة الأندلسية من جمال وسيادة تامة حتى أنها نفذت وتغلغلت في الفن الغرناطي وفن المدجنين. إن أبرز ما في المسجد الجامع من عناصر زخرفية معماريّة هو الباب الغربي المعروف باسم سان إستيبان، فقد أمر الأمير محمد بن عبدالرحمن إبن الحكم 852-886م بزخرفة الواجهات الخارجية ومنها واجهة هذا الباب كما تدل على ذلك لوحة كتابية ما تزال موجودة فوقه، وقد أتم الأمير محمد الزيادة التي بدأها أبوه عبدالرحمن في المسجد الجامع وأقام مقصورة في وسطه وكان أول من استخدمها من الأمراء، وأصلح الجناح القديم في الجامع الذي أنشأه جده عبدالرحمن وجدّده وأعاد إليه رونقه القديم، ولما انتهى من إصلاحاته في الجامع ذهب إليه في موكب فخم وصلّى فيه. ولم يكن للمسجد الأول في قرطبة محراب بارز كما يستدل على ذلك من أساسه، الأمر الذي نجد له نظائره في مساجد أخرى في المشرق العربي مثل المسجد الأقصى في القدس، وجامع عمرو بن العاص في الفسطاط في القاهرة، وحتى في الجامع الأموي في دمشق، ويدل هذا على أن العقود كانت تحل محله. وإذا كانت الروايات تدل على أن المسجد الجامع قد أنجز في عهد عبدالرحمن الداخل، فإن هناك نصوصاً أخرى تدلنا على أن ابنه هشام 788 - 796م أكمل بناء المسجد الجامع، وأمر ببناء المئذنة التي بُدّلت في تاريخ لاحق بأخرى أكثر منها عظمة في عهد عبدالرحمن الناصر. وقد أمكن معرفة موقع أساس منارة هشام فقد كانت تتصل من الداخل بالجدار الشمالي للصحن وكانت تمتد حوالي أربعة وعشرين متراً نحو الجنوب، وطول كل ضلع من أضلاعها عند القاعدة 6 أمتار، أما ارتفاعها فكان يبلغ خمسة وعشرين متراً. أقام هشام أيضاً مداخل أبواب أو سقائف على جوانب المسجد من الداخل نحو أطرافه خصصت للنساء، وقد اكتشف أساسها في جوار الزاوية الشمالية الشرقية للمسجد متصلة بجداره القديم. وقد قام الأمير عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن 888 - 912م وبسبب اشتداد الفتن والصراع وسوء أحوال البلاد، وليضمن حماية نفسه، قام ببناء ساباط ممر على شكل قبو معلق مسقوف يؤدي من قصره إلى داخل الجامع على مقربة من المحراب ومفصول عن بقية مساحة الجامع المخصصة للصلاة ليكون في معزل عن عامة المصلّين في أيام الجمع والأعياد. ولما سقطت قرطبة في يد المسيحيين في حزيران يونيو 1236م تحول المسجد الجامع إلى كاتدرائية ، وفي أواخر القرن الخامس عشر وبعد سقوط غرناطة عام 1492م شيد داخل بيت الصلاة معبد ضخم على الطراز القوطي، وفي سنة 1521 م شرع القساوسة في بناء كنيسة جديدة داخل بيت الصلاة، ودامت أعمال البناء ثلاثة قرون تقريباً. ويُذكر أن إمبراطور اسبانيا شارل الخامس زار الكاتدرائية عام 1526م وكانت أعمال الكنيسة في بدايتها فأبدى استياءه الشديد لما رأى أعمال الهدم والتخريب التي حدثت في المسجد وأبدى ندمه على الرخصة التي منحها لرجال الكنيسة. وفي عام 1881م سُجل الجامع ضمن المعالم الأثرية القومية في اسبانيا وأعيد ترميمه وإحياؤه فأزيلت كل الزيادات الطفيلية ورُممت زخارف الواجهات الخارجية والمحراب والقباب. * كاتب فلسطيني مقيم في أبو ظبي