بات واجباً سياسياً وأخلاقياً على الرئيس جورج دبليو بوش أن يبيّن بوضوح إذا كان يريد"السترة يا رب"، وهو يمرر الشهور المتبقية له في البيت الأبيض، أو إن كان خياره مغادرة منصب الرئاسة الأميركية بسيرة تاريخية، غير تلك التي تصنفه فاشلاً وتحصره في حرب العراق، ويفرض عليه بالضرورة اتخاذ قرارات أخرى غير محبوبة أو مثيرة للجدل. فإذا كان يريد التحاف السترة، فلتتوقف وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس عن رحلاتها المتتالية إلى الشرق الأوسط لصنع السلام الفلسطيني - الإسرائيلي، ذلك لأن انجاز السلام يتطلب مجابهة التستر على افشال إسرائيل عملية السلام بأكثر من سياسة واجراء. ليتوقف هو نفسه عن الايحاء بأنه لن ينحني أمام إيران وطموحاتها النووية والاقليمية، ولن يسمح لسورية بتخريب لبنان وشله، إذا كان قراره الابتعاد عن المواجهة والانحناء أمام متطلبات"السترة". فإذا كان الرئيس الأميركي في حاجة إلى تجنب ما من شأنه أن يعكر صفوة التقاط الصور الوداعية أثناء زيارته إلى الشرق الأوسط بعد أسبوعين، المرجو منه ألا يتظاهر بأنه حقاً ملتزم بإقامة الدولة الفلسطينية، والتمني عليه أن يكف عن توزيع الوعود بإقامة هذه الدولة في مواعيد وهمية. أما إذا كان الرئيس الأميركي قد دقق ليس فقط في ما سيصنع له سمعة تاريخية، وإنما سيخدم المصلحة الأميركية وسيحمي الولاياتالمتحدة على المدى البعيد، فإنه سيستنتج بسرعة أن عليه أن يتبنى استراتيجية الإقدام. وهذا يتطلب قرارات جريئة، لا شعبية فورية لها، صعبة إنما رؤوية ومصيرية للفرد الأميركي وليس فقط لشعوب الشرق الأوسط، أبرزها: منع إسرائيل وسورية وإيران من المتاجرة بفلسطينولبنانوالعراق عن طريق اجراءات ملموسة ومؤذية ومكلفة. ومنع الاتجار بالاعتدال والتطرف كسلعات في لعبة المقامرة الخطيرة أو لعبة الجهل الرهيب الذي يستولي على نسبة غير ضئيلة من صنّاع القرار والرأي العام الأميركي على السواء. الغزل السوري - الإسرائيلي، والاتفاق المزعوم أنه منشود بينهما، والاتصالات عبر تركيا، كلها تأتي في إطار التسلية والالهاء. فالمفاوضات السورية - الإسرائيلية لم تعد تتوقف على بحيرة طبريا والجولان المحتل، وإنما تصب الآن أكثر من أي وقت مضى على علاقة سورية ب"حزب الله"وبإيران وبالفصائل والمنظمات الفلسطينية في دمشق. في الماضي كانت لدى القيادة السورية في عهد الرئيس حافظ الأسد هوامش للأخذ والعطاء في علاقة دمشق مع الأطراف الثلاثة،"حزب الله"وإيران والفصائل الفلسطينية، في إطار الصلح مع إسرائيل. في السابق، كان لبنان ورقة خاضعة لسورية ورغباتها ولم يكن ل"حزب الله"ذلك القدر من الاستقلالية عن دمشق والاذعان إلى إيران. الآن الأمر مختلف، فلا لبنان ورقة مضمونة في جيب الرئيس السوري الحالي بشار الأسد، ولا الثقة موجودة بينه وبين"حزب الله"، ولا هو واثق من عدم استغناء إيران عنه، ولا هو يتمتع بحماية عربية بعدما فرّط بعلاقاته العربية المهمة وبالذات مع السعودية ومصر، ولا هو قادر عن الانسلاخ عن ايران و"حزب الله"حتى ولو شاء. وبالتالي، ان الهوامش التي كانت متاحة في إطار المصالحة أو المناورة مع إسرائيل قد زالت. الرئيس السوري يعرف أن إسرائيل تعرف المعادلة الجديدة التي تقيده ويخضع لها. والقيادة الإسرائيلية تعرف أن القيادة السورية تعرف ما تعرفه إسرائيل. كلهم يتلاعبون على سخافة إمكان سلخ سورية عن ايران، أو تسليم دمشق"حزب الله"، وكأن للقيادة السورية في الأمر حيلة. إن القيادة السورية لا تملك ذلك القرار الذي تتظاهر إسرائيل أنها تخطب ود دمشق من أجله. فلا في وسع دمشق الانسلاخ عن طهران. ولا في قدرة دمشق السيطرة على"حزب الله"في لبنان بعدما قطع شوطاً في بناء دولة داخل دولة لبنان وبات يمتلك ما يكفيه من بنية تحتية وسلاح. ثم ان"حزب الله"ليس كياناً منفصلاً عن إيران لا سيما في إطار العلاقة مع سورية. وبالتالي ان هامش المقايضة السورية - الإسرائيلية لضبط"حزب الله"أو التضحية به يكاد يكون معدوماً. وعليه، كل ذلك الكلام الإسرائيلي البائس الذي يزعم أن الهدف من الغزل مع سورية هو عزلها عن إيران وتخليها عن"حزب الله"إنما هو هراء هدفه تحويل الأنظار عن التجاوزات الإسرائيلية للاتفاقات مع الفلسطينيين والقوانين الإنسانية الدولية. فلا هناك تقدم في المفاوضات بما يعيد الجولان إلى سورية. وليست هناك صفقة سلام ثنائي بين سورية وإسرائيل، لأن شروط الصفقة مستحيلة الآن. هناك، في الواقع تفاهم سوري - إسرائيلي على الابقاء على الوضع الراهن إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية. حتى كلام"الهدنة"بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل يأتي في إطار التفاهمات الإسرائيلية - السورية. الفصائل الفلسطينية تخدم هذا الهدف - اللاحرب واللاسلم بين سورية واسرائيل. أيضاً، هذه الفصائل الفلسطينية العاملة في لبنان والتي هي تحت إمرة دمشق قد تكون مفيدة للقيادة السورية في حال تطورت العلاقة بين سورية و"حزب الله"الى منافسة أو مواجهة في زمن المساومة والمحاكمة. فهناك مؤشرات تفيد بمحاولات لتوجيه الأنظار الى مسؤولية"حزب الله"عن اغتيالات سياسية في لبنان، من ضمنها اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه والتي شرعت المحكمة الدولية في تجهيز نفسها لمحاكمة الضالعين في هذه الاغتيالات. هناك كلام عن صراعات على خلفية اغتيال القائد العسكري في الحزب عماد مغنية. فإذا صدق مثل هذا الكلام، فإن للفصائل الفلسطينية في لبنان الخاضعة للنفوذ السوري دوراً كبيراً، أقله بحسب الاستراتيجية السورية، وكذلك لعناصر"القاعدة"الذين يتم تمريرهم عبر الحدود السورية - اللبنانية دور في إطار هذه المنافسة. إضافة الى ذلك، لبنانياً، الجميع يتوقع ان يستأنف موسم الاغتيالات السياسية قريباً في لبنان -ربما في الفترة بين الانتهاء من الانتخابات الرئاسية الاميركية في تشرين الثاني نوفمبر وبين تسلم الرئيس المنتخب مهماته في كانون الثاني يناير من العام المقبل. هذه الفترة في اعتقاد من يخططون للاغتيالات مواتية على اساس ان في أميركا حينذاك حالة شلل تجعلها عاجزة عن الرد والمعاقبة. ثم انه مع حلول ذلك التاريخ ستتوضح معالم بدء أعمال المحكمة الدولية ما قد يؤدي ب"الاغتياليين"الى اتخاذ قرارات اشعال حروب في لبنان إما للإلهاء بعيداً عن المحكمة وللتخويف من عواقب جديتها أملاً بتخويف من يتعامل معها ويعمل فيها. أو نتيجة الاستنتاج بأن لا مناص من المحاكمة، وبالتالي، لا مناص من تطبيق مبدأ"عليّ وعلى أعدائي"في لبنان. فليس لاسرائيل أي نفوذ يمكنها من تعطيل المحكمة، مهما أوهمت أصدقاءها وأعداءها بذلك. قد يكون في وسع اسرائيل استخدام نفوذها مع الولاياتالمتحدة أو مع فرنسا وبريطانيا كي تخفف من حماس هذه الدول للمحكمة. قد تنجح في شراء الوقت والمماطلة مستخدمة نفوذها مع هذه الدول الأعضاء في مجلس الأمن. انما لن تنجح اسرائيل أو غيرها في ايقاف المحكمة مهما فعلت. وبوادر الاختلاف مع الإدارة الأميركية حول هذا بدأت تظهر. فالتوتر في العلاقة الأميركية - الاسرائيلية بدا واضحاً في كشف الإدارة الأميركية عن صفقة الصمت السورية - الاسرائيلية ودوافع ونتائج العملية العسكرية الاسرائيلية ضد ما يزعم انه مفاعل نووي كوري شمالي في سورية. جاء هذا الكشف ليتزامن مع كلام الصفقات السورية - الاسرائيلية ومع علو أصوات جوقة الداعين الى تأهيل"حماس"في المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية بهدف تحويل الأنظار عن افشال الحكومة الاسرائيلية لجهود حل الدولتين وللمفاوضات التي تقودها السلطة الفلسطينية. لا يكفي ان يقول الرئيس الأميركي إنه ملتزم بقيام الدولة الفلسطينية وملتزم بدعم لبنان في وجه الثلاثي السوري - الاسرائيلي - الايراني، كل لحساباته الخاصة. ولا يجوز أن يكتفي جورج بوش بالاستياء من محاولات اسرائيل توجيه ضربات مؤذية على ركبتيه، لا سيما وأنه يتعهد علناً كرئيس للولايات المتحدة الأميركية أن قراره بدعم لبنانوفلسطين يصب في صلب المصلحة الاميركية القريبة والبعيدة المدى. إذا كان جورج بوش حقاً جدياً في حماية المصلحة الاميركية الاستراتيجية وفي حماية الفرد الاميركي وحقه بالحرية والسفر من دون خوف، وفي حماية المدن الاميركية من الارهاب - كما قال تكراراً - عليه أن يواجه اسرائيل بجدية وحزم. عليه أن يتجرأ على النقلة النوعية التي لم يجرؤ عليها أي رئيس اميركي ليقول: إن المصلحة الاميركية تتطلب التوصل الفوري الى الحل النهائي للنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. لا يكفي له التباهي بأنه أول رئيس اميركي تحدث عن دولة فلسطين. ان التطورات بمجملها، في فلسطينولبنانوالعراقوايران، تطالبه أن يحرص على المصالح الاميركية. وهذا يتطلب إزالة المسألة الفلسطينية عن الطاولة، بحل عادل ودائم. فبهذا فقط يمكن إزالة نصف المعركة ضد الارهاب لأن الذين يتاجرون بالقضية الفلسطينية يخسرون معاركهم الضالة إذا تم حل هذه المسألة. وبهذا الحل يمكن تقوية صفوف الاعتدال لأن صفوف التطرف تزداد قوة مع استحالة حل النزاع الفلسطيني - الاسرائيلي. حتى مناورات السلم السورية - الاسرائيلية يجب أن يتم فضحها بسرعة لأن هدفها اطالة المعاناة الفلسطينية لتكون حافزاً للغضب الشعبي العربي والاسلامي. فإذا أرادت اسرائيل وسورية السلم الثنائي، أهلاً وسهلاً، فهذا حقهما بل هو أمر مرحب به يتمناه دعاة السلام والاعتدال. أما إذا كان غزل المناورات لدب الوهن في ركبتي الرئيس الاميركي، فليفعل شيئاً ما. ليت جورج بوش لم يقرر زيارة الشرق الأوسط في الاسبوعين المقبلين لأن مشاركته في الاحتفاء بقيام دولة اسرائيل تأتي في منتصف فشله وفشل وعوده بقيام دولة فلسطين وفي خضم مشاعر النكبة بين الفلسطينيين. فالرئيس الفلسطيني محمود عباس والفريق الذي يرافقه منذ عقود نتيجة القناعة بصنع السلام عبر المفاوضات، قد اصابه الاحباط وخيبة الأمل. قد لا تكون هذه المشاعر جديدة على القيادات الفلسطينية التي اختارت السلام وراهنت على وعود الولاياتالمتحدة بصنعه. انما اليوم يوم آخر. حذار الاستهتار بتمرير الفرصة المتاحة لصنع السلام الفلسطيني مع اسرائيل. فإذا أفشل جورج بوش أو كوندوليزا رايس فريق محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض، يجب أن يدركا ويدرك الرأي العام الأميركي معهما أن هذه خسارة ضخمة لاستراتيجية السلام، وللتمنيات الاميركية بالعيش في أمان. حذار الاستهتار والتظاهر بأن لا بأس بما يحدث في لبنان. فإذا أفشل جورج بوش وادارته لبنان، يجب أن يدركوا جميعاً أن معنى هذا انهيار الصفوف الأمامية في المعركة من أجل الديموقراطية والاعتدال كما في المعركة ضد التطرف والاستبداد. حذار الاستهتار واطلاق التصريحات والتهديدات من دون تنفيذها، سواء كان ذلك نحو ايران أو سورية، أو غيرهما. فإذا انتصرت سورية وايران في العراق وفي لبنان سيكون ذلك الانتصار تثبيتاً لانزلاق العظمة الاميركية ليس فقط في منطقة الشرق الأوسط وانما عالمياً، وبإفرازات وعواقب باهظة يدفعها الفرد الاميركي. حذار الاستهتار والتلكؤ والتظاهر. حان وقت الاختيار بين السترة وبين الاقدام، قبل أن يفوت الأوان.