تهافُت القيادة الإيرانية على ذمّ مؤتمر أنابوليس الذي استضافه الرئيس جورج دبليو بوش لإطلاق انشاء الدولة الفلسطينية له نكهة غير معتادة من طهران المعروفة بالحنكة وتجنب الهلع. وقد يكون سبب استنتاجها أن الإدارة الأميركية اتخذت قرار توجيه ضربة عسكرية للبنية التحتية للنظام في طهران. وقد يكون نتيجة الغضب من سورية التي حضرت المؤتمر على رغم احتجاج إيران بعدما كانت ألغت"مؤتمر دمشق"للمنظمات الفلسطينية الرافضة لمؤتمر أنابوليس. مهما كانت الاسباب، يجب على الإدارة الأميركية أن تتنبه جداً لإفرازات الموقف الإيراني نحو أنابوليس ولمستجدات العلاقة الإيرانية - السورية على الساحة اللبنانية بالذات، وايلاؤها أولوية واضحة. ولأن النفوذ الإيراني والنفوذ السوري في لبنان نفوذان مباشران، فأي تطور في العلاقة الإيرانية - السورية إذا كان نحو التعزيز أو نحو الشرخ، سينعكس في لبنان فوراً. جورج دبليو بوش يدرك ذلك وقد سبق له ووعد بالوقوف مع لبنان واستقلاله وسيادته وحريته. اثناء انشغاله بمؤتمر أنابوليس، ترك الرئيس الأميركي الانطباع لدى البعض بأن أميركا تفعل في لبنان ما تفعله أميركا باستمرار، وهو عدم تنفيذ التعهدات واتخاذ الخطوات المجزأة والتخلي عن الأصدقاء في ساعة"الحشرة"والاستعداد لأي مقايضات تخدمها هي فقط وحليفها الإسرائيلي. فإذا كان جورج دبليو بوش حريصاً على نسج السيرة التاريخية التي بدأ نحوها عبر مؤتمر أنابوليس، عليه أن يولي فوراً وشخصياً، بالغ الاهتمام بلبنان، وأن يضعه حالاً في موقع الأولوية بقيادة أميركية - أوروبية. ولأن مؤتمر أنابوليس رشح لبنان إلى المزيد من الاستخدام والتفجير باعتباره مختبر وبوصلة وساحة العلاقات الاقليمية والدولية، فإن الرئيس وكامل طاقم الإدارة الأميركية مُطالبان الآن بالتحرك العلني لوقف موسم المساومات والمقايضات على حساب لبنان في بازار دولي. وهكذا يمكن لجورج دبليو بوش اثبات جديته. فكرة أنابوليس لها بذور في مبادرة تقدم بها العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني وبدأ التحدث عنها اثناء المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في أعقاب تنسيق دقيق مع دول وأطراف مهمة، من بينها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والسلطة الفلسطينية. اثناء اللقاء في دافوس في كانون الثاني يناير هذه السنة، تحرك كل من العاهل الأردني والرئيس الفلسطيني محمود عباس عبر نقلة نوعية في مواقف دول عربية فاعلة ورائدة بمبادرة هدفها سحب القضية الفلسطينية من ساحة المناورات الإيرانية والرعاية السورية راجع مقال الكاتبة بتاريخ 2 شباط/ فبراير 2007. في دافوس دعا العاهل الأردني إلى معالجة الملفات الساخنة في المنطقة فلسطينولبنان والعراق - بهذا التدرج، وقال إن إيران تقحم نفسها على"طاولة المفاوضات أو طاولة اللامفاوضات عبر حماس"، وعليه فإن حل النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي يؤدي إلى"اضعاف"إيران وأوراقها. وكانت"المبادرة العربية للسلام"التي أطلقتها المملكة العربية السعودية وتبنتها قمة بيروت أساس التحرك والمبادرة. وعندما توجه الملك عبدالله الثاني إلى الكونغرس الأميركي حاملاً رسالة الاعتدال العربي والإسلامي بتكليف من كبار دول الاعتدال في آذار مارس الماضي ليقدّم القضية الفلسطينية أمام الرأي العام والكونغرس والإدارة بصفتها"القضية المحورية"، حصر خطابه التاريخي في هذه القضية. قال ما فحواه: على الولاياتالمتحدة أن تختار إما الانخراط مع الاعتدال ومعالجة القضية الفلسطينية وقبل فوات الأوان، أو المضي بالوضع الراهن الذي يجر المنطقة إلى حروب ناتجة عن"ايديولوجيات الإرهاب والكراهية"وعن"النهج العسكري المتغير والأسلحة المستخدمة فيه"، في إشارة إلى إيران والسلاح النووي. طرح تفاصيل الرؤية العربية واستعداد الدول العربية للمشاركة في إحياء العملية السلمية الفلسطينية - الإسرائيلية. أوضح أن الرهان هو على الرئيس الأميركي الذي تسيّره قناعاته، وأن الفرصة تاريخية للولايات المتحدة نفسها، وأن البديل هو كارثة للجميع رسالة الاعتدال العربي والإسلامي إلى واشنطن - مقال منشور في 9/3/2007. ومنذ ذلك الحين والعمل الدؤوب مستمر إلى أن حدث مؤتمر أنابوليس. مؤتمر أنابوليس لم يكن - كما زعم بعجرفة بعض الإسرائيليين - من صنع أميركي وإسرائيلي للمجيء بدول عربية من وزن المملكة العربية السعودية، إلى طاولة تجمعها بالقيادات الإسرائيلية. فأنابوليس حقاً من صنع عربي، بمبادرة عربية، ونتيجة عزم وتنسيق وثبات عزيمة عربية على اخراج فلسطين من طوق العزلة والتهميش والتقنين في الإرهاب. أكثرية الدول العربية المشاركة ذهبت إلى المؤتمر لتقول إنها الشريك الحاضر في جهود انشاء الدولة الفلسطينية وبناء مؤسساتها. شاركت هذه الدول في المؤتمر ليس على رغم أنفها وتلبية لأوامر الإدارة الأميركية - كما يوّد بعض العرب وبعض الإسرائيليين تصوير الأمور - وإنما لأن محطة أنابوليس هي النتيجة الأولى لمبادرة النقلة النوعية التي ثابرت في العمل نحوها على رغم شتى العراقيل، ومن بينها العصا الإسرائيلية، في دواليب الاندفاع العربي. هذا، إضافة إلى معارضة أفراد الإدارة الأميركية مثل اليوت ابرامز والمؤسسات الفكرية الأميركية لفكرة ايلاء الرئيس الأميركي اهتماماً شخصياً بالمسألة الفلسطينية خوفاً من ممارسته الضغوط الضرورية على إسرائيل، وكي لا يتعمق الانطباع بأنه سيكرس اهتمامه الشخصي حتى انتهاء ولايته لوضع الأسس الثابتة لانشاء دولة فلسطين، بل لربما لانشائها قبل مغادرته البيت الابيض. واقع الأمر ان هذه الأطراف تسيء الى الولاياتالمتحدة واسرائيل معاً وتشجع التطرف في الساحتين العربية والاسلامية وتقزم صفوف الاعتدال، عمداً في معظم الأحيان، ثم ان البعض في اسرائيل وبين الأفراد والمؤسسات الداعمة لها دعماً مطلقاً بلا محاسبة يتحدث بلغة المقايضات وألاعيب المسارات الفلسطينية - السورية - اللبنانية الخطيرة. سبق لجورج بوش ان خضع للحملة المنظمة والصبورة وتسلق السلم هبوطاً بعد أن كان قد صعد اليه في خطابه الرئيسي الأول حول النزاع العربي - الاسرائيلي. فعل ذلك بفضل براعة المنظمات اليهودية الأميركية وبفضل وجود أقطاب هذه المنظمات داخل الإدارة الأميركية. الآن، وبعدما استمع شخصياً الى القيادات العربية، ربما ينوي تجنب تكرار التسلق هبوطاً. وهذا تماماً ما يخيف التطرف اليميني الأميركي والاسرائيلي: ان يتخذ جورج بوش قرار الانخراط. فهو رجل معروف بالعناد إذا قرر ان هذا خياره. مجرد إعلان بدء المفاوضات الرسمية الفلسطينية - الاسرائيلية من البيت الابيض بحضور الرئيس الاميركي مؤشر على اعتزام بوش بذل قصارى جهده ليبقى منخرطاً شخصياً في مراقبة المفاوضات والحكم عليها. الآن، لم تعد اسرائيل وحدها تملك أذن الرئيس الأميركي. الآن، جورج بوش بدأ الإصغاء بأذن أخرى للموقف العربي. الآن، لا استفراد أميركياً - اسرائيلياً بالفلسطينيين كما كان في السابق. فالمرحلة المقبلة لن تكون اعتيادية. فالكل يراقب، والمجهر يتوسع، وعناصر العملية الجدية لانشاء دولة فلسطين قد وضعت أسسها. ثم ان الرأي العام الأميركي والعالمي لم يعد في وارد الاندفاع التلقائي للدفاع عن اسرائيل تحت أي ظرف كان، وهو بدأ يدقق في مواقع تصادم المصلحة الوطنية مع المصلحة الاسرائيلية. ما أنتجه مؤتمر أنابوليس للفلسطينيين، بحسب تعبير أحد كبار المشاركين فيه، هو"حس الأمل". جاء الوفد الفلسطيني برئاسة محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض ليبين وجه الثقة بالنفس والحنكة في المفاوضات ولينزع عن الفلسطينيين"عقلية المنهزم"بحسب تعبير أحدهم. جاء محاطاً بشراكة عربية ليكون شريكاً للرئيس الاميركي في البحث عن السلام. فلم تعد الشراكة أميركية - اسرائيلية حصراً، وسقط قناع البحث عن شريك فلسطيني والذي لبسته القيادات الاسرائيلية في كل محطة عندما تسنى لها ذلك. اليوم، ان مبعوث"اللجنة الرباعية"المكونة من الولاياتالمتحدة والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا، رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير، بدأ يتلمس بنفسه الأوضاع على الساحة ويتعرف عن كثب على المواقف الاسرائيلية. نعرف انه عبر عن دهشة واستغراب - في الجلسات المغلقة - لمدى استخدام اسرائيل ذريعة"الأمن"بمبالغة. وعليه الآن مسؤولية اثبات جديته الشخصية، وجدية بريطانيا، صاحبة"وعد بلفور"بإنشاء الدولة اليهودية في فلسطين قبل 90 سنة، في صنع السلام في فلسطين. العرب الذين يتوقعون الآن نتائج فورية للمفاوضات هم أنفسهم الذين أصيبوا بخيبة أمل نتيجة عدم فشل مؤتمر أنابوليس، ونتيجة عدم تقديم الجانب الفلسطيني تلك"التنازلات"التاريخية التي تحدث عنها معسكر"التخوين"الذي أصبحت ايران عرابه. هذا المعسكر يشعر بالخجل لأن أنابوليس لم تقدم اليه معدات شن حملة التخوين وذرائعها. فالوفد الفلسطيني لم يتنازل عن شيء. والوفد الاسرائيلي لم يحصل على ما كان يأمل بالحصول عليه. وبحسب معنيين بتفاصيل المفاوضات، هناك حاجة فلسطينية لبعض الوقت كي تتمكن السلطة الفلسطينية من خلق أجواء جديدة على الأرض، وكي تثبت نفسها أكثر فأكثر في الساحة الفلسطينية، وكي تبني على الانجاز الأمني وثقة الناس بقدرات هذه الحكومة، وكي تجرد اسرائيل من حجة وذريعة الأمن كلما طاب لها. والتحدي كبير. فاسرائيل لا توفر أي جهد لتقويض جهود السلطة الفلسطينية في الناحية الأمنية نفسها التي تطالب بها. والداعمون لإسرائيل لا يكفون عن محاولات تحطيم السلطة الفلسطينية وهيبتها وقدراتها. رد الحكومة الفلسطينية هو تعزيز ثقلها على الأرض، وتعزيز انجازاتها الدولية، والبناء على الخروج من العزلة والتهميش. فهي تدرك أن الظروف ليست مواتية لتسوية تتطلب تنازلات وبحسب أحد أقطابها"ليس لدى فلسطين ما تتنازل عنه الآن"، لذلك فإن الظروف ليست مواتية لتسوية في غضون شهور،"ولا الوقت مناسب كي نحصل على ما نريد". وبالتالي فإن المنطق يتطلب تعزيز الحكم في السلطة الفلسطينية بثبات مع توفير الحماية العربية والدولية من التخريب. التخريب يتحدث بلغة فارسية هذه الأيام انما البوابة ليست بالضرورة ايرانية حصراً. هناك فرز للعلاقة الايرانية بكل من سورية والمنظمات الفلسطينية مثل"حماس"التي يقودها خالد مشعل و"الجهاد الاسلامي"بزعامة رمضان عبدالله شلح و"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة"التي يقودها أحمد جبريل. يأتي هذا الفرز في أعقاب"انزعاج"ايران من سورية بسبب حضورها المؤتمر، وعدم تلبية قادة المنظمات الفلسطينية في دمشق دعوة رسمية ايرانية للاجتماع بالرئيس محمود احمدي نجاد في لقاء في طهران يتزامن مع مؤتمر انابوليس لاعلان مواقف ضده بحضور قيادات عشر منظمات فلسطينية. وبحسب ما قالته مصادر الى مندوب"الحياة"في دمشق جاءت مواقف المنظمات الفلسطينية على رغم"ضغوط واغراءات كبيرة قدمت الى قادة المنظمات"قبل ان تتبلغ السفارة الايرانية في دمشق رغبة المدعوين"تأجيل"الزيارة الى موعد آخر. وبحسب المعلومات المنشورة، حمل وزير الخارجية الايراني منوشهر متقي عرض استضافة اللقاء بعد قرار دمشق تأجيل المؤتمر المعارض لمؤتمر انابوليس ثم جددته الحكومة الايرانية بدعوة للقاء محمود احمدي نجاد قبل يومين من أجل رفض مؤتمر انابوليس وإدانته. ولم يكن الرئيس الايراني وحده"مستقتلاً"من أجل تقويض السلطة الفلسطينية والشراكة العربية والاميركية معها، وانما زاحمه على ذلك المرشد الأعلى للثورة الايرانية، آية الله علي خامنئي. مستشار المرشد الأعلى، حسين شريعتمداري، اعتبر الفصائل الفلسطينية الثمانية التي تتخذ من دمشق مقراً لها، زائداً"حماس"و"الجهاد الاسلامي"، تضم"الممثلين الفعليين للشعب الفلسطيني"مهمشاً كلياً السلطة الفلسطينية واستقلالية القرار الفلسطيني. العلاقة الايرانية بهذه الفصائل تمر عبر العلاقة بين ايران وسورية - ربما مع احتمال استثناء ممكن لاحق لكل من"حماس"و"الجهاد الاسلامي"، اذا حدث حقاً شرخ جذري في العلاقة الايرانية - السورية. وهذا ليس واضحاً بعد. الاسرائيليون يقولون، كما جاء على لسان رئيسهم شمعون بيريز، إن هناك"اتصالات ورسائل عدة"بين اسرائيل وسورية، وإن وجود خالد مشعل في دمشق يشكل عقبة أمام فتح المفاوضات بينهما. رحب بيريز بمشاركة سورية في مؤتمر انابوليس واعتبر سبب المشاركة العربية الكبيرة فيه هو التهديد الذي تمثله ايران اليوم على المنطقة. ايران، بدورها، اعتبرت المشاركة العربية في انابوليس موجهة ضدها ولذلك سمحت بالتظاهرات امام السفارة الاردنية في طهران ضد انابوليس ومن ساهم فيه. انما ربما ما أثار"انزعاج"ايران بالذات من الأردن هو مزيج من خلفية انابوليس زائداً الزيارة التي قام بها الملك عبدالله الثاني الى دمشق والتي ساهمت في إقناع سورية بحضور المؤتمر. مراقبة تطور العلاقة الايرانية - السورية في الأيام والأسابيع المقبلة ضرورية ومهمة من أجل ترقب ماذا سيحدث في كل من ايرانولبنانوفلسطين والعراق. فإذا صح ما يقال بأن اسرائيل تنجح في"سلخ"سورية عن ايران، بضمانات اسرائيلية - اميركية للنظام في دمشق، وذلك في اطار التهيئة لضربة اميركية ضد البنية التحتية لايران، تتوجه الأنظار فوراً الى طرح السؤال: ماذا سيفعل"حزب الله"في لبنان إزاء تطور كهذا بين حليفه الايراني وشريكة السوري؟ وهل يعني تفاهم كهذا ان جميع اللاعبين قرروا تقديم لبنان قرباناً للصفقة الاقليمية - الدولية؟ أم أن المعادلة كانت بكل بساطة: إما الضربة العسكرية لكل من ايران وسورية معاً، أو خيار الانسلاخ عن طهران مع ضمانات البقاء في السلطة؟ حتى الآن، هذه سيناريوهات وتساؤلات تترتب عليها تستحق الطرح. الضالعون في العملية الديبلوماسية العربية مع سورية ينفون ان لبنان قُدِّم قرباناً ويؤكدون التمسك باستقلاله وبالمحكمة الدولية. هذا مشجع. إنما ما تتطلبه المرحلة الآن، وفوراً، هو موقف علني للرئيس الاميركي نحو لبنان وعودة الدور الأميركي الناشط اليه وإعطاؤه الأولوية حالاً.