مهما كانت دوافع النائب وليد جنبلاط وهواجسه، فقراءته للسياسات الدولية والإقليمية وتصرفاته على الساحة اللبنانية تثير القلق منه وعليه. الخوف عليه ناتج من تصرفاته وتقلباته وكأنه الرجل الميت الذي يمشي على قدميه... الى مصير يتنبأ به أو يسعى إليه. والتخوف منه ناجم عن تسرعه في استباق الأحداث من جهة بسبب قراءة جزئية لتطور العلاقات الإقليمية – الدولية جعلته يسابق نفسه الى استرضاء سورية وإلى استعادة لغة «اليسار» و «المقاومة» لتحرير فلسطين من لبنان، وغزة، ومن جهة اخرى، بسبب استنتاجات افتراضية من ان المحكمة الدولية يخشى ان تكون فتيل تفجير حرب أهلية لبنانية. التهور في التعاطي مع تناقضات ومفاجآت وليد جنبلاط بصفته الزعيم الدرزي أو بصفته رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي لن يأتي بفائدة على لبنان. ما تتطلبه المرحلة الراهنة على الصعيد اللبناني هو العمل نحو الفهم الكامل لدوافع جنبلاط- العقلاني منها والاقل عقلانية، والبارع تكتيكيا وسياسيا، لربما، اذا كان الهدف من مواقفه الجديدة تمييز وزنه زعيما على الساحة السياسية اللبنانية كحالة مستقلة لينضم الى الرئيس "الضمانة" ويصبح "بيضة القبان". هذا لا يعني اطلاقا اضفاء أية مباركة لانتزاع جنبلاط- او اي زعيم طائفي او وطني آخر- من المواطن اللبناني ما قد سعى وراءه وحصل عليه في الانتخابات التشريعية. فمهما كانت حساباته صائبة او خاطئة، وبغض النظر ان كانت قراءته السياسية معمقة او طائشة، لا يحق له الاستهتار بنتيجة الانتخابات مهما كانت حساباته ناتجةعن قلق على طائفته او عن "ميكيافيلية" لتموضعه، او هواجس فرز العلاقات الاقليمية. توقيت انقلابه على حلفائه في 14 اذار يشكل انقلابا على خيار الناخب اللبناني الذي صوت لصالح مشروع وفكر وحكم 14 اذار ليحجب الاكثرية عن مشروع "حزب الله" وحلفائه في المعارضة كي لا يحكموا البلد. هذا الناخب يضم شباب الطائفة الدرزية وكهولها الذين لا يرحبون بالاستهانة بالأصوات التي أدلوا بها ولا تليق بهم الإهانة المترتبة على القرارات الانفرادية أو الهفوات غير اللائقة بالطوائف الأخرى التي يتعايشون معها. هذا لا يعني الإغفال عن هواجس لها مبرراتها لوليد جنبلاط، محلية وإقليمية ودولية، إنما التعاطي مع هذه الهواجس يستحق حماية الإنجازات مع الشركاء وفتح الأبواب معاً لشراكات جديدة بدلاً من تقلبات محيرة تترك نكهة الطعن والاضطراب والإحباط. ما انطلق منه وليد جنبلاط لم يأت من فراغ إنما له علاقة اساسية بالسياسة الأميركية نحو منطقة الشرق الأوسط بالدرجة الأولى. إنه نادم على ثقته بإدارة جورج دبليو بوش التي يشعر انها خذلته وخذلت فلسطين ولبنان بوعود زائفة. وهو يقرأ سياسة إدارة باراك أوباما بأنها ترتكز على العناوين الرئيسة لأية إدارة أميركية عندما يتعلق الأمر بفلسطين وإسرائيل في الدرجة الأولى، إنما الجديد انها متوجهة الى دمشق عنواناً ومفتاحاً أساسياً لها. ولذلك، يبدو ان جنبلاط اختار لنفسه استراتيجية التموضع مع دمشق بما في ذلك شراكتها مع «حزب الله» ومع «المقاومة» كي يستبق ما تفرزه العلاقة الأميركية – السورية الثنائية منها والإقليمية، وبالذات في بعدها اللبناني. فإذا أفرزت تعزيز ما تسميه دمشق «منطق المقاومة» كان جاهزاً له، وإذا أفرزت «منطق التفاوض» كان متهيئاً على السواء، شأنه شأن «حزب الله» في الحالتين. فهو يبدو واعياً لاحتمالات التباعد واحتمالات التقارب بين سورية و «حزب الله» وبين إيران وسورية وأكبر شكوكه تصب في إسرائيل التي يخشى ان تكون تدبّر فخاً تلو الآخر لفلسطين ولبنان وربما ايضاً لإيران. في بعض النواحي، ان وليد جنبلاط على حق وفي أجزاء منها قد يكون مخطئاً أو مفرطاً. فسورية مثلاً، أعلنت تكراراً ان خيارها الاستراتيجي هو خيار التفاوض والسلام مع اسرائيل ولم تقل ان المقاومة هي خيارها الاستراتيجي، وبالتالي لا داعي لإعلان المقاومة خياراً استراتيجياً للبنان. لا داعي للتشكيك في التزام القيادة السنية في لبنان بعروبته لمجرد انها وللمرة الأولى رفعت شعار «لبنان أولاً». ولا لزوم للمزايدة على القيادة الفلسطينية الشرعية وهي في خضم بذل قصارى جهودها لبناء مؤسسات الدولة الفلسطينية كدرع للشعب الفلسطيني كي لا يبقى مسحوقاً تحت الاحتلال الإسرائيلي. فخيار التفاوض السلمي الذي تتبناه قيادة الرئيس محمود عباس ورئيس الحكومة سلام فياض هو الذي يحمي الفلسطينيين في داخل إسرائيل – وفي الضفة الغربية – من «الطرد الجماعي» وسياسة «الترانسفير» التي هي في ذهن قيادات في إسرائيل «وذلك بحجب ذرائع تنفيذ» الترانسفير عنها. اما فتح ساحة لبنان وحده منبراً للمقاومة ضد إسرائيل لتحرير فلسطين إنما هو عبارة عن تقديم هذا البلد كبش فداء مكبلاً جاهزاً للذبح. والناس – جميع الناس من مختلف الطوائف في لبنان – لن تسامح اليوم من يفعل ذلك. ثم ان السياسة الأميركية نحو فلسطين في عهد باراك أوباما ليست على نسق «كما جرت العادة». الجديد فيها يستحق التشجيع العربي كي تبقى اسرائيل وحدها في موقع الملامة على إفشال جهود الرئيس الأميركي الذي اوضح ان المسألة معنية بالأمن القومي للولايات المتحدة وليس فقط بعدالة إنشاء الدولة الفلسطينية. فلا لزوم لأي طرف عربي ان يتحرك في هذه المرحلة الفائقة الحساسية في العلاقة الأميركية – الإسرائيلية بما يشكل انتشالاً لحكومة بنيامين نتانياهو من الضغوط الأميركية والدولية أو يوفر لها ذخيرة التملص من هذه الضغوط من دون قصد. سورية تفهم تماماً هذه المعادلة وهي تتمركز مع الإدارة الأميركية ببالغ الحذر كي تضمن مكانة مميزة لها لدى هذه الإدارة. إنها الآن في مرتبة مفضلة لدى واشنطن بعدما انحسرت مرتبة طهران بصفتها المفتاح الرئيس لسياسة الإدارة الأميركية الجديدة نحو الشرق الأوسط، نتيجة طريقة تناول النظام في إيران للانتخابات الرئاسية، إنما للتأكيد ان دمشق ليست البديل من طهران لدى واشنطن كمفتاح رئيس للسياسة الأميركية في المنطقة كما يتصور البعض، معتقداً ان باراك اوباما يحزم حقائبه لزيارة دمشق إرضاء أو استرضاء لها كما تصوّر ان العاهل السعودي الملك عبدالله كاد يصل ابواب دمشق قبل اسابيع. واقع الأمر ان القيادة السورية هي الحريصة على تقديم وثائق اعتمادها لدى واشنطن وهي التي تضع العلاقة المرجوّة مع الولاياتالمتحدة في صدارة أولوياتها. ولا خطأ في ذلك. الخطأ هو في إساءة قراءة حذافير العلاقة بما يؤدي الى حسابات خاطئة. فواشنطن لم تتخل عن لبنان ولم تبعه في خضم صياغة علاقات لها مع سورية. أصرت إدارة أوباما على أمور أساسية أبرزها تحييد استقلال وسيادة لبنان عن الصفقات والتفاهمات، واستبعاد المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية وفي مقدمها اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري عن محادثات التقارب الأميركي – السوري. فإذا كانت هناك من نافذة على فرصة مميزة للبنان، فانها متاحة تحديداً في العلاقة الأميركية – السورية وانعكاساتها على العلاقة اللبنانية – السورية التي باتت لها اسس جديدة منذ ان اعترفت دمشق باستقلال لبنان. والنافذة مفتوحة ايضاً على علاقة راقية ومهنية مع الإدارة الأميركية وذلك من خلال تصرف أركان الحكم الحالي في لبنان وزعامات الأكثرية التي فازت بالانتخابات بثقة وباحترام لأهمية ما أسفرت عنه الانتخابات. فالمفاجأة السارة لواشنطن لم تكن من صنع أميركي وإنما كانت صناعة لبنانية في انتخابات نزيهة وحرة. وعليه ان لبنان ليس مديوناً لواشنطن وإنما حكومته مكلفة شعبياً إبلاغ الإدارة الأميركية أن لبنان يجب ان يكون حاضراً كطرف ثالث معني مباشرة أينما وجدت المحادثات الأميركية – السورية نفسها لتصب في موضوع لبنان. فالأميركيون يفهمون جيداً لغة مطالبتهم باحترام استقلالية حكومة جاءت بها الانتخابات وهم يعطون انفسهم هامش الاستهتار والتكابر فقط عندما يقدم طرف نفسه إليهم بلغة مخالفة للمطالبة بالاحترام والمكانة. ثم ان لبنان مؤهل ليكون شريكاً فائق الأهمية للإدارة الأميركية في مسائل الشرق الأوسط وما أبعد منها وذلك إذا أحسن الاستفادة من مواقعه المميزة سلباً أو ايجاباً. فلبنان واجهة السلم والحرب في الشرق الأوسط وهو ايضاً مختبر صنع العلاقات الإقليمية وبوتقة اختبار الموازنات الإقليمية والدولية. إنه موقع مهم في حرب باراك أوباما على التطرف من منطق مختلف عن حرب جورج دبليو بوش على الإرهاب. فعلى الأراضي اللبنانية توجد مختلف المجموعات التي تلعب مختلف الأدوار ولديها شتى المعلومات وتضم أنواع التطرف الذي تحتاج إدارة أوباما الى فهمه والتعاطي معه. فمهم للبنان اليوم ان يتصرف كشريك وليس كملحق. من الضروري لقياداته ان تقدّر وزن لبنان في المعادلات الإقليمية والدولية وتستفيد من طرح هذا الوزن بصورة تجددية حتى في ما ينظر إليه اللبنانيون بأنه حديث إقليمي أكبر منه مثل الحديث السعودي – السوري. فحتى في التقارب السعودي – السوري – الأميركي توجد نافذة مميزة اليوم للبنان ليكون جهة كفوءة بمرتبة موازية عندما يتعلق الأمر به. فالمملكة باتت مفتاحاً اساسياً الى المنطقة وذلك قبل التطورات الإيرانية وبعدها بصورة أضخم. وبالتالي، إن لبنان مستفيد مضاعفاً لو تصرف على أساس إيجابيات ما أنجزه والبناء على شراكات أساسية لتوسيعها بدلاً من الإقلاع عن هذه الشراكات في اتجاهات عكسية. وللتأكيد، لا أحد يعاتب احداً على المصالحات بين الفرقاء في لبنان أو على الاستعداد لفتح صفحة جديدة مع سورية. الكل يقول ان «حزب الله» له مكانه ومكانته وأن الرهان عليه ليتخذ القرارات الحكيمة والإجراءات الضرورية التي تثبت ان لبنان هو مخرجه الطبيعي ومصيره اذا تخلى عن مشروع تحويله ساحة لإيران وطموحاتها وذريعة لإسرائيل لتقصفه تكراراً. إنما العبء لا يقع على أكتاف «حزب الله» عندما يستبق احد قرارات المحكمة الدولية بالخوف على لبنان من حرب اهلية يشعلها «حزب الله» إذا صدرت قرارات ظنية تتماشى مع مقال «دير شبيغل» الذي وجّه تهمة التورط في اغتيال الرئيس رفيق الحريري في اتجاه «حزب الله» بعيداً من سورية. فبغض النظر عن صدق جميع الفرقاء والأفراد الذين يريدون تجنيب لبنان حرباً أهلية ويريدون إيقاف قطار المحكمة إذا كان القطار سيؤدي الى مثل هذه الحرب، واقع الأمر هو ان «حزب الله» يبقى بريئاً حتى الى ما بعد صدور أي قرارات ظنية ضد أي من أفراده الى حين الادعاء والدفاع والمرافعة في عملية تستغرق طويلاً وقد تسفر عن مفاجآت. حقيقة الأمر ان ما تتفق عليه قيادات كثيرة في لبنان هو خوفها من حرب أهلية تفتك به بمجرد صدور قرارات ظنية - إذا صدرت - ضد «حزب الله». الفارق ان بعض هذه القيادات – مثل وليد جنبلاط – يطالب بوقف قطار العدالة احتواء وتطويقاً لحرب أهلية تحرق نيرانها لبنان، والبعض الآخر – مثل سعد الحريري – يرى ان لا داعي لمطالبته بإيقاف العدالة واعتراض قطار المحكمة أولاً لأن ليست لديه أدوات الإيقاف والاعتراض، وثانياً لأنه ليس مستعداً للقيام بما قام به وليد جنبلاط في أعقاب اغتيال والده في سن الستين عندما عض على لسانه وكبت حقه بالعدل والعدالة من اجل لبنان. وهذا جزء من الخلاف بين الرجلين الصديقين والشريكين وإرثهما المتعلق بقتل والديهما وزجهما وريثين سياسيين لأوضاع صعبة هي نتيجة الاغتيالات. وسيحسم التاريخ لاحقاً إن كانت صفقات الإفلات من المحاسبة والعقاب هي صمام الأمان لردع حروب أهلية أو إن كانت الحكمة تقتضي ترك العدالة وشأنها، سيما وأن المحكمة الدولية لا شأن للحكومة اللبنانية بها ولا صلاحية ولا نفوذ لها عليه. المهم ان تسفر جهود احتواء التوتر الناتج عن انعطاف وليد جنبلاط عن فهم عميق لاسباب مخاوفه وقلقه على لبنان. وكما قال عنه حليفه وصديقه، انه كالفارس لابسا بدلة القتال الذي يمتطي حصانه الى هدفه النبيل باندفاع كامل، فيدمر شمالا ويمينا انما هدفه وطني دائما برغم الهفوات.